الانطباع الأول السائد، حتى الآن، أن الفراغ الرئاسي حتمي. وكأن الدوائر السياسية التي تعمل عادة على خلق دينامية رئاسية، تسلّم جدلاً بصعوبة تجاوز استحقاق الفراغ الرئاسي الثالث، وإجراء انتخابات رئاسية خلال شهرين. والانطباع الثاني أن لا ضرورة لأي حوار داخلي، ولو أولي، يتعلق بالرئاسة ما دام الاستحقاق خارجياً بامتياز، قياساً إلى التجارب السابقة.لكن سياسيين رافقوا استحقاقات رئاسية لا يتعاملون مع الفراغ على أنه بات مسلّماً به، ولا يأخذون على محمل الجد أي محاولات مبكرة لسحب «فكرة» الانتخابات من الواجهة. كل من أسهم في صياغة مشاريع رئاسية، يتحدث عن أن الاستحقاق الفعلي قد لا ينتهي إلا في ربع الساعة الأخير، وأن من المبكر الجزم من الآن بأن الفراغ الرئاسي، ولو كانت أسهمه مرتفعة قياساً إلى التجارب السابقة، صار حكماً أمراً واقعاً. لذا فإن الدخول الجدي في الرئاسيات سيكون على الطاولة بدءاً من تشرين الأول، وإن صاحبته شروط وشروط مضادة. وبذلك يستنفد جميع المعنيين شهر أيلول في جس النبض وجوجلة الأسماء المرشحة، إلى استكشاف آفاق الوضع الإقليمي، ما يعطي مجالاً رحباً للدخول في الشهر الأخير من المهلة الدستورية كمرحلة نهائية.
هذه القراءة نابعة من أن «لبنانية» الاستحقاق لا تزال تملك هامشاً واسعاً، وتأخذ مساحة مهمة من النقاشات وإعطاء الفرصة لصياغة اتفاق داخلي قبل الدخول في عملية التوافقات الإقليمية. وإذا كان كلام رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع عن دور النواب في الاستحقاق لم يؤخذ بجدية وسط كم الاستحقاقات الإقليمية، من اتفاق فيينا إلى تطورات العراق، إلا أن هناك اعترافاً لدى هؤلاء السياسيين بأنه يمكن في المرحلة الفاصلة التعامل مع انتخاب رئيس للجمهورية بالانتقال إلى مرحلة المبادرات الجدية الداخلية.
وبحسب هذه القراءة، فإن فكرة المبادرات الرئاسية والحوارات بين القوى السياسية المعنية مباشرة، يمكن أن تؤسس لشيء ما يبنى عليه داخلياً. وهذا الأمر، بخلاف الاعتقاد السائد، يمكن أن يريح رعاة لبنان الإقليميين والدوليين من الدخول في متاهات وتخفيف أثقال الصفقات التي تتطلّب عادة كثيراً من العمل لتحقيق تنازلات لتمريرها. والذهاب إلى هذا النوع من الحوارات الداخلية يفترض أن يكون ملحاً قبل أن تنعدم الفرصة بعد 31 تشرين الأول، حينها ستعطى للعوامل الإقليمية والدولية المساحة الأكبر التي تمنع حصول الانتخابات إلا من خلال عقد تسويات وتبادل صفقات وتغطيات إقليمية، والوقوف عند رعاية دول للمرشحين أو المرشحات. وستكون للعوامل المحلية، حينها، مرتبة مـتأخرة، ما يجعل من الصعب على القوى السياسية التعامل مع المرشح الذي سيتم التوافق عليه من خلال تسويات خارجية، في ظل رؤى متناقضة حول الشخص والمواصفات والدور المطلوب منه، بما يتعدى ملء الشغور الرئاسي فحسب، لا سيما أن هذا الشغور سيستهلك وقتاً تتضاعف فيه المخاطر السياسية والأمنية والاقتصادية، ما يضاعف من حجم التدخل الخارجي للجم الانهيار المتوقع، إلى حد فرض التسوية من خارج أي توافق داخلي.
من المبكر الجزم من الآن بأن الفراغ الرئاسي صار حكماً أمراً واقعاً رغم ارتفاع أسهمه


من هنا، تعطي بعض المرجعيات الأساسية الأولوية لتكريس فكرة إجراء الانتخابات كحتمية، قبل الكلام عن سيناريوهات تتعلق إما ببقاء رئيس الجمهورية في موقعه أو تشكيل حكومة ولو كاملة الصلاحيات، وصولاً إلى الكلام عن مرحلة ما بعد الفراغ ودستورية حكومة تصريف الأعمال وجاهزيتها. وهذه الفكرة التي تنطلق مبدئياً من حقيقة أن القوى المسيحية على اختلافها، وبتغطية من بكركي، تعتبر أن الانتخابات هي المحك الأساس الذي لا يجب تخطيه. ما يفترض بهذه القوى في الدرجة الأولى، ومن ثم القوى السياسية الأخرى، التعامل معه بجدية والمبادرة الفعلية لأي نوع من الحوار لإنقاذ الاستحقاق.
وتفادياً لأي فراغ يمكن أن يكون هذه المرة مقتلاً حقيقياً للموارنة، ليس في دورهم في صياغة الاستحقاق كما ينبغي فحسب، إنما في دورهم في النظام الحالي ولبنان ككل، فإن الكرة ستكون في ملعب الثنائي الشيعي، كمقرر أساسي، إذا كان يقبل بفكرة التفاوض الداخلي على مرشح أو التمسك بفكرة السلة المتكاملة التي سبق لرئيس مجلس النواب نبيه بري أن نادى بها في مرحلة سابقة. وبري، في هذا الاستحقاق، لاعب مهم، وسيكون لموقف الثنائي الكلمة الفصل في دعم الحوار حول الاستحقاق الرئاسي، في شكل منفرد، أو الإصرار عليه كي يأتي من ضمن رزمة متكاملة. وهذا يفتح الطريق أمام اجتهادات ومبادرات مضادة من القوى السياسية، ولا سيما المارونية، ما يضع الاستحقاق على المحك ويجعله في مهب التجاذبات مرة أخرى. وبقدر ما سيكون للقوى المسيحية دورها في الدفع نحو فكرة تكريس الانتخاب كمسلك دستوري طبيعي، ستكون المسؤولية على الثنائي الشيعي في المفاضلة بين خيارات داخلية أو خارجية، وفي كليهما تصبح المحاذير متساوية في أن يبالغ في شروطه.