اقتحام مصرف، «فدرال» أو غيره، لإجبار البنك على تسديد الوديعة، لم يكن خياراً لو أن القضاء اللبناني أصدر في السنوات الثلاث الماضية أحكاماً تنصف أصحاب الحقوق. فحتى الآن، أثبتت التجربة أن المسار القضائي ليس فاعلاً أو منتجاً، ولا سيما مع وحوش من نوع المصارف ذوي نفوذ. إذ إن غالبية الأحكام التي استصدرها المودعون ضدّ المصارف بواسطة القضاء الابتدائي، توقفت في مرحلتَي الاستئناف والتمييز حيث بات البتّ فيها أصعب طالما أنها أصبحت بيد قضاة أعلى «رتبة» في هيكلية نموذج الحكم القائم.بحسب أرقام مصدرها لجنة الرقابة على المصارف لعام 2021، فإن نحو 20 حساباً في لبنان ضمن شريحة الـ 150 مليون دولار وما فوق، يملكون نحو 5.2 مليارات دولار من الودائع، وأن 0.03% من الحسابات التي فيها أكثر من 10 ملايين دولار فيها 27 مليار دولار أو ما يوازي 22% من مجموع الودائع بالليرة والدولار. وفي المجمل فإن الفئة (ب) من المودعين الذين يملكون أكثر من 200 ألف دولار (وما فوق 150 مليون دولار في الحساب الواحد) ونسبتهم من عدد الحسابات تبلغ 4.83%، يستحوذون على 71% من الودائع، في مقابل 95.1% من الحسابات المصرفية التي لا يزيد فيها الحساب الواحد على 200 ألف دولار، تستحوذ على 29% من مجموع الودائع البالغ 125.1 مليار دولار.
وهذا التركّز كان سمة ملازمة للقطاع المصرفي في لبنان منذ عقود، إلا أنه بين نهاية 2019 ونهاية 2021، سجّل انخفاض في قيمة الودائع بنحو 52 مليار دولار. وسجّلت الفئة (أ)، أي ما يسمى صغار المودعين انخفاضاً بقيمة 4.6 مليارات دولار، مقابل انخفاض في الفئة (ب)، أي ما يسمّى كبار المودعين، بقيمة 22 مليار دولار. إذ أتيح للكبار أو لبعض منهم، تهريب ودائعهم إلى جانب تهريب ودائع المساهمين وأصحاب المصارف. أما من لا يملك شبكة مصالح وعلاقات مع المصارف، فقد اختار المسار القضائي ورُفعت مئات الدعاوى في لبنان والتي لم يصدر فيها أحكام لغاية اليوم، مقابل دعاوى قليلة في الخارج ربحت في غالبيتها ضدّ المصارف.
يلفت رئيس الجمعية اللبنانية لحقوق المكلفين المحامي كريم ضاهر، إلى الفرق بين القضاء المحلي والأجنبي «في المعركة بوجه المصارف لا أحكام قضائية مبرمة بعد الاستئناف، والتمييز تنصف المودعين، بينما القضاء الأجنبي يأخذ القرارات بسرعة خيالية للمودعين المقيمين في الخارج والذين يستردون أصل الوديعة والفوائد». ورغم صدور «قرارات شجاعة لقضاة في القضاء المستعجل وبعض محاكم الاستئناف وقرارات قليلة في محاكم التمييز، إلا أنها لم تشكّل مساراً كافياً يبنى عليه للقول إن القضاء حمى المودعين». ويشير ضاهر إلى أن «الجسم القضائي اتّجه في بداية الأزمة ليكون متعاطفاً إلى جانب المودعين، لكن لاحقاً بدأنا نرى تمييعاً للملفات واتخاذ قراراتٍ ضدّ المودعين».
في المعركة بوجه المصارف لا أحكام قضائية مبرمة بعد الاستئناف والتمييز تنصف المودعين


كلام ضاهر يفسّر جانباً من الحلول الفردية التي يلجأ إليها بعض المودعين. فهؤلاء، لا يرون في المسار القضائي مساراً منصفاً، بل يرون أن المصارف استردّت نفوذها وبدأت تلمّع صورتها تجاه الذين قاطعوها في الفترة الماضية، أو أقله لم يكونوا بحماسة الترويج لها ولخططها وإشاعة مظلوميتها كما الحال اليوم. هذا ما ساعد، برأي ضاهر، في «عدم تطبيق القوانين، وتخاذل الدولة عن القيام بدورها من سلطات تنفيذية وتشريعية وقضائية، وسمح للمرتكبين بالحفاظ على نفوذهم وقوتهم واستغلال مراكزهم مجدداً».
في هذه الفترة، سجّلت رابطة المودعين تقديم 400 دعوى قضائية نيابة عن مودعين بعناوين متعدّدة؛ منها إعادة فتح حساب، وتسديد قروض على السعر الرسمي للصرف (1500 للدولار)، وتحويلٍ إلى الخارج، واسترداد ودائع. لكن يُلاحظ أن الدعاوى التي ربحتها لم تكن تلك المتعلّقة باسترداد الودائع التي بقي معظمها بلا أحكام ولم تصل إلى أي نهايات، علماً بأن بعضها قُدّم أمام قضاء العجلة. ووفق المحامي فؤاد الدبس عضو الرابطة فإن «الجواب يكون غالباً بضرورة إعادة البحث في القضية وردّها إلى قضاء الأساس، وما قُبِلَ من دعاوى استرداد ودائع في قضاء العجلة والأساس، توقف في مرحلتَي الاستئناف والتمييز. حتى التغيير على صعيد الاجتهاد لمصلحة المودعين الحاصل في الشهرين الأخيرين لا يزال طفيفاً».
هذه السطوة المصرفية مقابل الارتهان القضائي سمحت للمصارف بأن تطرح أفكاراً مثل المحكمة الخاصة، ووضع اليد على أملاك الدولة عبر الصندوق السيادي، وتمرير قانون السرية المصرفية مشوّهاً فارغاً من مضمونه، والسعي لإقرار قانون «كابيتال كونترول» يناسب المواصفات التي تطلبها. وطالما أن جزءاً كبيراً من القضاة مرتهن للكارتيل نفسه ومن خلفه من سياسيين «ستبقى الصورة العامة فيها خلل فاضح كالقائم اليوم من إصدار الأحكام إلى التدخل في السياسات المالية والاقتصادية والنقدية» برأي الدبس، الذي يعتبر أن «الحلّ يجب أن يكون شاملاً، كخطة تعافٍ عادلة كاملة شفافة تشكّل حلاً للمجتمع ككل».
أما اللجوء إلى الشارع فهو خيار أساسي ودائم، «نتفهم ونقف إلى جانب أمثال بسام الشيخ حسين، وعبد الله الساعي، لكننا لا نشجع الحلول الفردية بهذا الشكل». فما بعد الانتفاضة بأسابيع قليلة، فقَد الشارع زخمه ولم يعد إلى حيويته رغم تعمّق الأزمة. هنا يعيد ضاهر الأمر إلى «الثقافة الاقتصادية الريعية التي سادت لثلاثة عقود وعلّمت اللبنانيين على عدم المبادرة، واعتبار الفرد أنه غير مؤهّل لإحداث أي تغيير أو تطوير، طالما الاعتماد والاتكال بات هو النمط السائد».