انطلق الكلام عن مواصفات محدّدة لرئيس الجمهورية وفق معايير فرنسية، تتداولها الدبلوماسية الفرنسية في بيروت، والتي باتت تكرّس لبننتها عند كل مفترق عبر دخولها في زواريب محلية. وهي كانت، الى الأيام الأخيرة، تحاول تسويق فكرة الرئيس الاقتصادي - المالي. رافضو الفكرة من عدد من القوى والشخصيات السياسية المعارضة، والى حدّ ما من قوى موالية، يرون أن تشخيص الأزمة هو المشكلة بينهم وبين مروّجي الاقتراح من فرنسيين ولبنانيين. فالفرنسيون كانوا يسعون الى تسويق فكرة الرئيس المالي والاقتصادي انطلاقاً من مقاربة الأزمة الراهنة بأنها أزمة اقتصادية مالية، وما يستتبعها من مشكلات مصرفية وكهربائية ونفطية ورؤية اقتصادية ومالية متكاملة لإنقاذ الوضع اللبناني. وهذا الأمر ليس جديداً، بل بدأ منذ مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.في الآونة الأخيرة، أُعيد ترويج التداول الفرنسي من خلال حثّ القوى السياسية على التعامل مع انتخابات رئاسة الجمهورية من زاوية اقتصادية ومالية، وبأن المخرج الحقيقي للأزمة الحالية يكمن في وضع خطة إنقاذية والتعاون مع صندوق النقد وما يليها من موجبات، وتالياً البحث في دائرة ضيّقة من أسماء مرشحين من هذا النهج، علماً بأن هناك أسماء متداولة مشهوداً لها في القطاع المالي والمصرفي، وهذا ليس سبب اعتراض معارضي الاقتراحات الفرنسية.
جوهر الاعتراض يتوزّع على مندرجات عدة. فالفرنسيون حين بدأوا تداول هذه الأسماء والأفكار منذ سنتين، كانوا حينها يتحدثون عن مواصفات لحاكمية مصرف لبنان، اليوم يتعلق الحديث بالموقع الدستوري الأول، وبرئيس الجمهورية لا بموظف من الفئة الأولى، يسعى الفرنسيون الى وضع مواصفات له على طريقة شركات الأعمال والاستشارات الكبرى. ورغم أن هذا لا يعني تقليلاً من أهمية الأشخاص المطروحة أسماؤهم، وأحدهم على الأقل يرفض الفكرة كلياً، فإن أسلوب التعامل الفرنسي يقزّم دور الأسماء المقترحة من شخصيات اقتصادية ومالية ورجال أعمال، كما يقلّل من أهمية الموقع الرئاسي، مهما مرّت عليه من إشكالات.
تختصر فرنسا أزمة لبنان بأنها أزمة مالية اقتصادية، وهذا الأمر ليس صحيحاً. فعدم الاعتراف بأن أزمة لبنان سياسية بالدرجة الأولى، وهي التي جرفت معها كل ما في لبنان من تحدّيات وأزمات متشابكة على مستوى كل القطاعات والفساد والاهتراء المستشري، يعني أن فرنسا تحاول التغطية على جوهر الأزمة، ما يعني إبقاء الجمر السياسي تحت رماد افتعال حل وهمي يتعلق فقط بإدارة أزمات اقتصادية ومالية، معزولة عن وضع حلول للأزمة السياسية المتفاعلة منذ سنوات. وبذلك تكون باريس تقفز فوق حقيقة المشاكل التي يعانيها لبنان، وهي باعتراف كل القوى السياسية من معارضة وموالاة أزمة سياسية بحت، بغضّ النظر عن أسبابها المتناقضة. فكيف يمكن مقاربة وضع لبنان في منطقة متفجرة، وبعد كل الأحداث التي رافقت أزماته الأخيرة، والتأثيرات الإقليمية، أن تعزل فرنسا الخضّات الأمنية والسياسية لتركّز اهتمامها على معالجة الأزمة الاقتصادية بمعزل عن كل الأطر السياسية. وكيف يمكن، مثلاً، معالجة الوضع الاقتصادي بمعزل عن التأثيرات السياسية الداخلية، كما في قطاع المصارف الذي هو أكبر قطاع خاص، والذي سخّرت كل أجهزة الدولة والسلطة السياسية والأمنية أدواتها لحمايته وتغطية ارتكاباته؟ وكيف يمكن استطراداً إدارة الأزمة السياسية، ومعالجة أي نقاش يتعلق بمستقبل النظام اللبناني وبعلاقات المكونات اللبنانية، في ظل نهج يحاول واضع خططه حصره في إطار اقتصادي منزّه عن كل كلام سياسي، يتعلق بحقيقة انقسام اللبنانيين والقوى السياسية بين مشاريع سياسية، وبين مؤيدي حزب الله ومعارضيه؟
يسعى الفرنسيون إلى وضع مواصفات للرئيس على طريقة شركات الأعمال والاستشارات


دلّت التجارب التي عرفها لبنان في حكومات أو في اختيار رؤساء ووزراء ونواب وقادة عسكريين وأمنيين، على أن كل من يصل الى أحد هذه المناصب يصبح حكماً أسير من أوصله إليه، ويتصرّف على إيقاعه ووفق اتجاهاته السياسية. والأمثلة كثيرة. والإتيان برئيس جمهورية، وفق معادلات خارجية أو داخلية ستجعل حكماً من الرئيس الجديد، الخارج من أي إطار سياسي مهما كان شكله، رجل هذه المعادلات وأسير حساباتها. فمن يقدر من المرشحين «التكنوقراط» على عدم التورط مع مصالح الآتين به، سواء محلياً أو خارجياً، ومن يقدر أن يكون رئيساً خارج معادلات التوازن السياسي والاقتصادي والأمني وكلها شبكة متكاملة ومترابطة تسعى الى أن تحكم سيطرتها على المواقع الأساسية.
الواضح حتى الآن أن مخترعي الأفكار الفرنسية يفتشون عن مواصفات لإلباسها للرئيس الجديد. وهذا ليس أمراً متعارفاً عليه أن يحدد بروفيل الرئيس قبل معالجة أسباب الأزمة التي ستجعل برلمان عام 2022 غير قادر على عقد جلسة انتخاب رئيس للجمهورية، ما دام القرار الإقليمي لم يصدر بعد بانتخابات رئاسية في المدى المنظور.