بعد سنتين على مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون التي تعثّرت مراراً ووصلت الى حائط مسدود، عاد الكلام اللبناني عن اتجاهات فرنسية جديدة في الملف الرئاسي. ومنذ لقاء الإليزيه بين ماكرون ووليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، في 28 تموز الماضي، تذهب الاجتهادات اللبنانية في منحى دخول فرنسا على خط الرئاسيات من الباب العريض، وافتراض أنها ستتحرك بخطوات ثابتة، لفرض إيقاع رئاسي على جاري عادتها في الاستحقاقات الرئاسية. وبدأت القوى السياسية تتعاطى مع الإشارات الفرنسية والتوصيفات التي يحددها دبلوماسيوها في بيروت للرئيس المقبل على أنها عنوان سياسة فرنسا «الرئاسية» في الاستحقاق المقبل.لكن ثمة أجواء فرنسية مغايرة. فبعد زيارة ماكرون للرياض نهاية العام الماضي، وزيارة ابن سلمان لباريس الشهر الفائت، لم تثر سياسة فرنسا تجاه لبنان كثيراً من الارتياح، لا في عواصم أوروبية ولا عربية. ولم تتمكن سياسة إدارة ماكرون، تحديداً في مقاربة الأزمة اللبنانية الداخلية والخارجية، من أن تحيط نفسها بدعم كاف في ظل تمسكها بفكرة المظلة الإيرانية، وبالحوار القائم مع حزب الله وفتحها قنوات اتصال دبلوماسية واسعة، وتخلّيها عن مقاربة تقليدية في التعامل مع القوى اللبنانية كافة. ولم ينجح ماكرون، تالياً، في استقطاب السياسة الأوروبية الخارجية - المعنية أولاً وآخراً بالملف النووي الإيراني - الى جانبه في ما يتعلق بإدارته لملف لبنان فبقي يغرّد منفرداً. لذا، ظل المشهد اللبناني الخارجي معطّلاً، إضافة الى استمرار التجاذب بين رؤيتين فرنسية وأميركية تجاه المواضيع العالقة، وإن كانت باريس تحاول دوماً الإيحاء بأنها على تنسيق مستمر مع واشنطن في ملف لبنان، دونه دون ملفات المنطقة الأخرى. لكن الواقع عكس ذلك تماماً. إذ إن واشنطن حيّدت نفسها مراراً عن تحرك باريس، وكل المقاربات الفرنسية لمرحلة سابقة أو مقبلة، منعزلة تماماً عن سياسة واشنطن، سواء كرؤية أو كدور أو خريطة طريق.
تسعى باريس الى أن يكون لها دور في الاستحقاق المقبل بما هو أبعد من اللازمة التقليدية حول التمسك بإجراء الانتخابات في موعدها. لكن لبنان على تقاطع مع تطورات العراق وعودة التفاوض حول الملف النووي، ولا يمكن وفق ذلك عزل الانتخابات عن الواقع الإقليمي وتشعباته. في حين أن باريس اعتبرت أنها قادرة على تنشيط دورها عبر البوابة السعودية، ومن خلال علاقاتها معها، أن تسحب الأخيرة الى جانبها، وتعدّل في مقاربتها للواقع اللبناني، واستطراداً تحقيق ثغرة في الملف الرئاسي، من دون الأخذ في الحسبان أن الرياض لا تزال منذ سنوات قليلة تعتمد المنهاج نفسه.
لم تنجح باريس منذ نهاية العام الماضي إلا في حصد الشق المتعلق بالمساعدات الإنسانية، وهذا ما سبق زيارة ابن سلمان وما أعقبها. لكن لقاءات باريس أسفرت عن إدراك إدارة ماكرون أن السعودية لا تزال في المربع الأول في تعاطيها مع لبنان، وتتصرف في الملف النووي وفي حوارها مع إيران بخلاف ما تعتقد باريس أنها قادرة على تحصيله. إذ إن فرنسا تراهن على أن أي تقدم مع إيران نووياً سينسحب على كل الساحات تهدئة وتطبيعاً للوضع، بما في ذلك لبنان. لكن الرياض «نتيجة خبرتها مع إيران»، تتصرف على قاعدة أن أي تقدم مع طهران في ملف ما، معزول حكماً عن الآخر، وأن طهران ستأخذ حيث يجب وستتنازل حيث تفترض مصالحها، لا حيث يريد الآخرون. تبعاً لذلك، رشح من لقاءات باريس أن السعودية مستمرة في الإيقاع نفسه، أي حصر الاهتمام بالمساعدات، ولا سياسة خاصة تجاه الوضع اللبناني لا في ملف الحكومة ولا في ملف رئاسة الجمهورية. وما رشح كذلك أن باريس باتت تتصرف على أنها ستمشي وراء السعودية في سياستها المعتمدة في لبنان، لا أمامها، وهي ستكون أقرب الى اعتماد نهج التنسيق معها، لا التصرف منفردة. هذا لا يعني أن باريس انكفأت عن مقاربات «لبنانية» بحتة، فيما تحرك دبلوماسيتها يستمر في الإيقاع ذاته، بفعل إدارات وخيوط محلية. لكن الخطوط الرئيسية باتت تعتمد نهج التريث وعدم الاستعجال والثقة الزائدة التي مورست منذ سنتين في كون باريس تملك مفتاح الحل والربط في لبنان، وهذا ليس واقع الحال. وهذا الأمر تعرفه طهران، وكانت ولا تزال تتصرف على أساسه، لكنها تلعب مع الفرنسيين لعبة المماطلة الى النفس الأخير. وقد حقّقت، حتى الآن، ومن ورائها حزب الله، نجاحاً في استقطابها الى جانبها. لكن إعادة تفعيل العلاقة مع السعودية سيضع فرنسا أمام اختبار جدي، قبل أن تفقد صدقيّتها مجدداً كما حصل سابقاً.