المصدر الرئيسي لقوّة المصارف يكمن في أنها كانت «قناة» ضرورية لاستمرارية نظام الحكم في الجمهورية الثانية. في السنوات الثلاث الأخيرة، برزت توصيفات دقيقة لهذا الاستنتاج، إنما لم يصدر أيّ منها عن مؤسّسة دولية، إلا ما ورد أخيراً في تقرير البنك الدولي بعنوان «بونزي مالي» انطلاقاً من مراجعة المالية العامة للبنان في فترة الجمهورية الثانية: 1993- 2019.يقول التقرير في الصفحة 48: «الاقتراض العام خَدَمَ أهدافاً أخرى غير تمويل العجز. نؤكّد أن الهدف الرئيسي هو خدمة ميزان المدفوعات من خلال الحفاظ على ربحية النظام المصرفي واجتذاب تدفقات رأس المال. كانت السياسة المالية في لبنان مكوّناً أساسياً من نموذج النموّ المعيب الذي كان خاضعاً للصدمات الخارجية والداخلية المفرطة بشكل متعمّد ومدروس». هذه العبارة لا تأويل فيها؛ المصارف كانت جزءاً من بنية النظام كلّه، واستمراريته تستند إلى الاستدانة المفرطة بمعزل عن حاجات التمويل الفعلية، أو الحاجات التي شرّعها مجلس النواب، وربحية المصارف كانت جزءاً من هذه الاستمرارية. فالنظام عبر المصارف كان يستقطب التدفقات لينهبها. وليكون قادراً على الاستمرار بذلك، كان يمنح المصارف حصّتها من عمليات النهب.
لذا، ضمن هرمية تركيبة النظام، كانت المصارف تحتلّ مكانة قيادية ليس فقط لأنها كانت «قناة»، فمع تفاقم حاجة النظام إلى الاستمرار، تشابكت المصالح بين زعماء السياسة وأصحاب الرساميل، وبات صعباً التمييز بينهما. للمصارف أزلام في الحكومات، وفي مجلس النواب، وفي القوى المحلية... ووصل الأمر إلى حدّ أن مجرّد اعتراف المصارف بشخص ما والإقرار بوجوده معنوياً، يعدّ كافياً للترقّي السياسي والاجتماعي، بما في ذلك الدور الخلفي للمصارف في اختيار وزراء في الحكومات المتعاقبة.
يمكن استحضار الكثير مما حصل في فترة المراجعة، من ضغوط مارستها المصارف لرفع أسعار الفوائد مباشرة عبر إقراض الخزينة، أو بشكل غير مباشر عبر إقراض مصرف لبنان بفائدة أعلى ليحلّ الأخير محلّها في إقراض الخزينة، أو في استعمال فروقات الذهب الوهمية لتغطية دين عام، أو في منع تصحيح أجور القطاعين العام والخاص لسنوات طويلة بحجّة أن النظام لا يتحمّل ضغوطاً تضخمية... لكن عندما لم تعد العمليات تكفي لتغطية الإنفاق وإخفاء الخسائر، لجأ مصرف لبنان إلى عمليات غير تقليدية أطلق عليها اسماً «علمياً» هو: الهندسات المالية انتهت بتحقيق المصارف أرباحاً خيالية بين يوم وليلة، تجاوزت 5 مليارات دولار، أو ما يوازي 10% من الناتج المحلي البالغ 51.4 مليار دولار في نهاية 2016.
إضراب المصارف حقّق هدفه قبل تنفيذه وهو كان «اختباراً» لردود فعل قوى السلطة ورسالة تحذير


في النتيجة، هذا النظام أوصل لبنان إلى الانهيار. وفي لحظة ما من عام 2019، بدأت تظهر مؤشرات الانهيار من توقف مصرف لبنان عن دعم القروض السكنية، إلى نهاية تثبيت سعر الصرف اعتباراً من منتصف 2019. وقد سبق هذه اللحظة، الكثير من تقارير الرصد الصادرة من مؤسّسات التصنيف الدولية، أو التي أثارها خبراء، حتى انفجر الشارع في 17 تشرين الأول 2019. في الأيام الأولى، سجّل «الشارع» أهدافاً أساسية؛ منها شتم الزعماء وزوجاتهم ومناصبهم. وفي هذا السياق، برزت جرأة نحو التغيير. لكن ضمن الأهداف الأكثر رواجاً إلى جانب شتم الزعماء وزوجاتهم وأقربائهم وأزلامهم، احتلّت المصارف مركزاً موازياً. واعتباراً من ذلك اليوم، قرّرت المصارف إقفال أبوابها لمدة 12 يوم عمل متتالية. في الأيام التالية، لم يعد يجرؤ معظم زعماء السياسة المحليين على الظهور العلني، ولا حتى أيّ من أزلامهم. أيضاً كانت أبواب المصارف عرضة للتكسير، وكانت آلات الصراف الآلي عرضة للتخريب الانتقامي. كان هؤلاء ينتقمون لمآسي الجمهورية الثانية بكاملها.
بهذه الوضعية انتقلت المصارف من لابسي «الكرافتات» إلى فارّين من وجه «الثورة». أما محاولات أصحاب المصارف في الانخراط وتقديم الدعم الشعبي، فانكشفت سريعاً، ولم تستقبلهم إلا الشرائح التي تشبههم في الأهداف السياسية والاقتصادية.
بمعزل عما حصل لاحقاً وعن التفسيرات التقنية لكبح الشارع ولإعلان الدولة التوقف عن سداد الديون، إنما في النتيجة: أفلست المصارف. بمعنى آخر، لم تعد المصارف بوضعها الراهن تمثّل حاجة لاستمرارية النظام، إنما هي تسعى إلى البقاء. رغم ذلك، ها هي المصارف تعلن الإضراب بذريعة توقيف «زميل» هو رئيس مجلس إدارة بنك الاعتماد المصرفي طارق خليفة. الرجل كان خارج لبنان منذ أشهر، وتدور حوله الكثير من الأسئلة ذات البعد القانوني والمتّصلة بعلاقته مع شركائه من باقي المساهمين. وهو ليس مؤثّراً في قرارات جمعية المصارف. وجاء قرار توقيفه على خلفية امتناع مصرفه عن تسديد ما هو متوجب لمساهمة تحمل أسهماً تفضيلية، إنما لم تتحمّل المصارف حصول التوقيف. فهي، بكل جبروتها، لا يمكن أن تسكت عن سلوك «أرعن» كهذا يقوم به القضاء! لذا، قرّرت أن تنفذ إضراباً لمدّة يومين. إضراب المصارف حقّق هدفه قبل تنفيذه، وهو كان بمثابة «اختبار» لردود فعل قوى السلطة، ورسالة تحذير بأن الإفلاس المالي لم يستنزف نفوذها. بالفعل، لم يخرج من بين جموع السلطة اعتراض حقيقي على سلوك المصارف، بل بدا كأنّ هناك إجماعاً على أن إقفال المصارف هو حقّ مكتسب لهم. لم يخرج أيّ من هؤلاء الذين نخروا عقولنا بأن إضراب العاملين في القطاع العام مضرّ بالخزينة، وبالإيرادات، وبالخدمة العامة، ليقول إن المصارف أقفلت منذ زمن أمام كل المجتمع؛ فعدا عن أنها فرّطت بالودائع وأساءت الائتمان ووظّفتها بمخاطر مرتفعة مع مصرف لبنان الذي بدّدها على استمرارية نظام الحكم، فهي فرضت قيوداً غير شرعية على الحسابات، سواء المدّخرات أو الحسابات الجارية المتعلقة بعمليات تسديد الرواتب والأجور للعاملين في القطاعين العام والخاص، وما زالت تفرض عمولات بالجملة والمفرق بلا أي رقابة أو محاسبة أو تنظيم من مصرف لبنان أو من لجنة الرقابة على المصارف. بل هي ما زالت تحصل على إيرادات طائلة من مصرف لبنان ومن الخزينة العامة، رغم إفلاس الخزينة! عملياً، الخزينة تموّل إضراب المصارف، لأن الإضراب لا يوقف مفاعيل الفوائد.



القطاع العام بلا رواتب
لم يقبض موظفو القطاع العام رواتبهم عن شهر آب. الإضراب المفتوح الذي قاموا به على مدى شهر و3 أسابيع، أخّر إحالة الرواتب. وبعدما فك هؤلاء إضرابهم الأسبوع الماضي، انتظروا تلقي رواتبهم والحوافز التي وُعدوا بها أمس، إلا أن إضراب جمعية المصارف عطّل الأمر، ما يعني عدم إحالة الرواتب قبل نهاية الأسبوع الجاري على الأقل في حال فكّت الجمعية إضرابها غداً.
وأشار وزير المال في حكومة تصريف الأعمال ​يوسف الخليل​ في بيان إلى أن «الوزارة أنجزت عملية تحويل رواتب المتقاعدين، والتي يستفيد منها قرابة مئة وعشرة آلاف متقاعد». ولفت إلى أن «المساعدة الاجتماعية الخاصة بهؤلاء تم تحويلها في وقت سابق. كما تستمر التحضيرات لتحويل رواتب باقي ​القطاع العام​ تباعاً اعتباراً من هذا الأسبوع».