كما في انتخابات 2018، طغت ممارسات شراء الأصوات والزبائنية الواسعة على انتخابات 2022، ما شوّه تكافؤ الفرص وأثّر بشكل خطير على خيارات الناخبين، بحسب ما خلُص إليه تقرير بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات. ولكن مع فارق «بسيط»، وهو أن حجم الأموال التي أُنفقت في الاستحقاق الأخير فاقت أيّ انتخابات أخرى، فيما كانت هيئة الإشراف على الانتخابات عاجزة تماماً عن القيام بأي دور فاعل في مراقبة الانتخابات.نحو 167 مراقباً من مختلف الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي أتوا إلى لبنان بين 27 آذار و16 حزيران، وككل مرة خرجوا بتوصيات حول ضرورة ممارسة مزيد من الشفافية وفرض غرامات على مخالفات المرشحين ورفع السرية المصرفية عن حسابات عائلات المرشحين وتعزيز دور المرأة عبر فرض «الكوتا» النسائية وضرورة إنشاء الميغاسنتر. وصوّبوا على مساوئ قانون الانتخاب الذي أدّى إلى تشويه النسبية، إذ افتقدت الدوائر الانتخابية إلى «المساواة بين الأصوات»، وارتفع عدد الأصوات الضائعة، وافتقرت الانتخابات إلى «تكافؤ الفرص»، وانعكس الأثر السلبي للأزمة الاقتصادية على حجم وتنوّع أنشطة المرشحين.
بعض الملاحظات تطرّق إلى رصد «توزيع أكياس خبز ومواد غذائية وإمدادات طبية ومولّدات وأجهزة طاقة شمسية ووقود للتأثير بشكل غير ملائم على الناخبين». أما وسائل الإعلام، فقد لعبت «الدور الأساسي في إدارة العملية الانتخابية بطريقة سلبية وغير متكافئة»، فكان واضحاً طغيان حضور فريق 14 آذار من مستقلين ومجتمع مدني على القنوات التلفزيونية التجارية الثلاث، «أل بي سي» و«أم تي في» و«الجديد»، ما حال دون «الظهور المتساوي للمرشحين ولوائحهم، ولا سيما مع اعتماد المحتوى الانتخابي المدفوع الأجر». وفي ما يأتي بعض ملاحظات المراقبين الأوروبيين على العملية الانتخابية، والواردة ضمن تقرير من 100 صفحة تسلّمه رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة:

تشويه النسبية
تقسيم الدوائر وفقاً للقانون الانتخابي المعتمد أدّى إلى عدم مساواة في وزن الأصوات وإلى تضييع عدد كبير من الأصوات في الدوائر الصغرى، ما مسّ بأساس النسبية. فوفقاً للوائح الشطب، يبلغ معدّل عدد الناخبين 30,996 لكل مقعد، لكنّ هذه النسبة رَاوحت بين 16,853 ناخباً في بيروت الأولى و46,866 في الجنوب الثانية، ما يعني أن وزن الصوت في الأولى هو ثلاثة أضعاف الصوت في الثانية. كما أدّى العدد المنخفض للمقاعد في بعض الدوائر إلى ضياع عدد كبير من الأصوات خصوصاً في المناطق التي تنافست فيها لوائح كثيرة، ما قلّل من نسبية النظام. ففي دائرة الشمال الأولى تنافست 8 لوائح على 7 مقاعد، ما أهدر 42.73% من الأصوات الصحيحة لأن ست لوائح لم تصل إلى الحاصل الانتخابي. وفي الجنوب الأولى أُهدر 45.58% من الأصوات الصحيحة بسبب سبع لوائح على خمسة مقاعد.

تقاعس «الداخلية»
بحسب التقرير، أدّى عدم كفاية التواصل من جانب وزارة الداخلية والبلديات إلى افتقار المحافظين والقائمّقامين إلى المعلومات الأساسية، وافتقار الوزارة للشفافية وعدم نشرها معلومات مهمة تتعلق بالانتخابات كالعقود والمشتريات والميزانية المفصّلة، إضافة إلى عدم نشر بعض القرارات إلا بعد أيام من اتخاذها. وقد عيّنت الوزارة، بواسطة القائمّقامين، 15 ألف موظف مدني في أقلام الاقتراع في اليوم السابق للانتخابات، من دون أي تدريب بسبب القيود المالية. هؤلاء الموظفون صوّتوا في 12 أيار، ولحظت بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات نقصاً عاماً لديهم في المعرفة بإجراءات لديهم، وهو مؤشر مبكر على الأداء الضعيف لموظفي أقلام الاقتراع الذي لُحظ يوم الانتخابات.

«الهيئة» غائبة
افتقرت هيئة الإشراف على الانتخابات إلى الأموال والموارد البشرية المؤهلة كالمدقّقين، وواجه أعضاؤها نقصاً في الدعم السياسي وعدم امتثال وسائل الإعلام للقوانين وعدم تمكنهم من أداء عملهم بشكل مستقلّ. وبسبب نقص التمويل، كانت أنشطة الهيئة محدودة جداً، ولم يلتزم المرشحون وممثلو الجهات واللوائح والأحزاب السياسية ووسائل الإعلام بفترة الصمت الانتخابي رغم نشر الهيئة بياناً توضيحياً حول ذلك. من جهة أخرى، وبحسب القانون، يقتصر رصد تمويل الحملات الانتخابية على الحساب المصرفي الذي يتعين على المرشحين فتحه عند الترشح مع الحفاظ على السرية المصرفية التامة للحسابات الشخصية الأخرى للمرشحين أو لأقاربهم، ما يسمح لهم بتوجيه مبالغ غير مشروعة من المال عبر حسابات مصرفية مبهمة تماماً لا تستطيع هيئة الإشراف الوصول إليها. لذلك، أوصت بعثة المراقبة، بمنح الهيئة الإمكانية والقدرة على التدقيق في كل الحسابات المصرفية للمرشحين وأطفالهم وأزواجهم عبر رفع السرية عن هذه الحسابات. وحتى لو كان القانون يفرض حدوداً للإنفاق، فإن الهيئة، وفقاً للتقرير، لا تملك الموارد اللازمة لتقييم موثوقية المعلومات المالية التي يقدمها المرشحون للتثبّت من احترامهم هذه السقوف. وأفاد جميع مندوبي بعثة الاتحاد الأوروبي لمراقبة الانتخابات عن تداول نقدي هائل في الحملات، وعن إعانات عينية ومالية لأغراض انتخابية من قبل مؤسسات يملكها أو يديرها مرشحون أو أحزاب. علماً أن توزيع الخدمات والمدفوعات خلال الحملة الانتخابية لا يخضع لسقوف الإنفاق ولا يقع تحت نطاق عمل هيئة الإشراف إذا تمّ توفيره نفسه لمدة 3 سنوات قبل الانتخابات، ما يتيح تجاوز حظر تمويل الحملات من قبل الأحزاب والمرشحين الأثرياء الذين يمكنهم التأثير على خيارات الناخبين مقابل الضروريات الأساسية، ولا سيما في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية. كذلك لم تتصرف الهيئة بطريقة فعّالة لضمان امتثال وسائل الإعلام للقوانين.

العين على حزب الله فقط
اللافت أن تقرير البعثة رصد ملاحظات وانتهاكات بعين واحدة، فقدّم أمثلة تصيب حزب الله وحركة أمل والتيار الوطني الحر حصراً. هكذا، رأى المراقبون أن ثنائي حزب الله وحركة أمل «هيمن على دوائر الجنوب الثانية والثالثة والبقاع الثالثة، مانعاً المرشحين واللوائح التابعة لانتماءات سياسية أخرى من القيام بحملات انتخابية، ما ترك لهم فرصاً ضئيلة، إن وُجدت، للنجاح في الانتخابات». لكن، سريعاً، يناقض التقرير هذه الحجة بالإشارة إلى أنه «في العديد من أقلام الاقتراع هناك، حصل حزب الله وحركة أمل على أكثر من 90% من الأصوات، خاصة في البقاع الثالثة، تليها الجنوب الثانية والثالثة»، مفسّراً ذلك بـ «الدعم الساحق للثنائي من قبل السكان الشيعة المحليين الذين رغم توفّر العديد من اللوائح اختاروا قادتهم السياسيين الشيعة». وفيما لفت إلى «حالات موثّقة من الترهيب من قبل حزب الله وحركة أمل في ما يتعلق بمعارضيهم في الانتخابات»، أشار إلى أن «حقيقة هيمنتهم تجعل مثل هذا التدخل الوقح غير ضروري». وعدّد التقرير حالات ترهيب مرشحات وتدمير مواد انتخابية في بيروت الثانية والبقاع الثانية وجبل لبنان الرابعة، لكنه لفت إلى أن هذه الانتهاكات بقيت محلية ولم يكن لها أي تأثير على نتائج الانتخابات.

القوات الأكثر إنفاقاً
أظهرت مراقبة بعثة الاتحاد الأوروبي لوسائل التواصل الاجتماعي أن التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والمرشحين المستقلين كانوا ناشطين جداً وأثاروا أعلى قدر من التفاعلات على فايسبوك وتويتر، بينما كان التفاعل أقل لدى الكتائب والمردة. ولفت التقرير إلى أن المرشحين المستقلين والمعارضين كانوا الأكثر ظهوراً على منصات التواصل من خلال المحتوى المدفوع. فقد حلّلت البعثة الإعلانات السياسية التي تمت مشاركتها على 243 صفحة على فايسبوك من 22 آذار حتى 15 أيار. ورَاوح الإنفاق عبر الإنترنت بين 100 دولار و27 ألف دولار. وشاركت القوى الناشئة الجديدة، كما وصفتها البعثة، أي القوى «التغييرية»، إعلانات على 128 صفحة من الصفحات المرصودة وأصدرت ما مجموعه 3 آلاف و338 إعلاناً مقابل 117 ألف دولار أميركي. ومن بين هذه القوى برزت حركة «مواطنون ومواطنات في دولة» كالأكثر تنظيماً إذ عرضت صفحتها الحزبية إعلانات تغطي كل الدوائر. وصنّفت البعثة صفحة «ممفد» كثالث أكبر منفق على فايسبوك (115 إعلاناً، 16 ألفاً و896 دولاراً). فيما حلّت القوات اللبنانية في المرتبة الأولى كأكبر منفق (115 إعلاناً، 27 ألفاً و396 دولاراً). ومن الواضح هنا أن المراقبة اقتصرت على الصفحات الرسمية فقط للأحزاب وليس صفحات مرشحيها الذين أنفقوا فردياً ما يوازي أو يفوق إنفاق أحزابهم بأضعاف. وحلّ الكتائب في المرتبة الثانية (143 إعلاناً مقابل 16 ألفاً و896 دولاراً) وصفحة «بيروت بدها قلب» التابعة للنائب فؤاد المخزومي رابعة (103 إعلانات مقابل 9 آلاف و446 دولاراً). في حين أنه «نادراً ما لجأ تحالف 8 آذار إلى المحتوى المدفوع على فايسبوك».

شراء التغطية التلفزيونية
اشترى المرشحون الأغنياء «الحزم الانتخابية» المدفوعة التي اقترحتها بكلفة عالية القنوات التلفزيونية التجارية الرئيسية الثلاث، وهي «الجديد» و«المؤسسة اللبنانية للإرسال» و«أم تي في». وشملت هذه «الحزم» الوصول إلى البرامج الإخبارية والحوارية والمقابلات والتغطية المباشرة. وقد رَاوحت الأسعار بين 1000 يورو مقابل 30 ثانية وأكثر من 500 ألف يورو للحصول على حزمة كاملة على القنوات الثلاث، وزادت هذه الأسعار في الأسبوعين الأخيرين قبل الانتخابات. ولم تعلن أي مؤسسة عن «البرامج المرعية» سوى المؤسسة اللبنانية للإرسال.
رَاوحت أسعار «الحزم التلفزيونية» على القنوات الرئيسية الثلاث بين 1000 يورو لـ 30 ثانية وأكثر من 500 ألف يورو

ورغم أن البعثة نفسها تنتقي باستنسابية في التقرير ما تراقبه على وسائل الإعلام، إلا أنها تنبّهت إلى عدم وضع إشارة إعلان مدفوع أثناء التغطية المباشرة لتجمّع للتيار الوطني الحر في بيروت بحضور رئيس التيار جبران باسيل. وأشارت إلى تغطية تجمّع مهم لمناصري حزب الله بمشاركة الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله على الهواء مباشرة على قنوات «أن بي أن» و«أو تي في» و«المنار» من دون عرض أي شعار «برنامج مرعي»، معتبرة أن ذلك يشير إلى دفع ثمن التغطية أو بثّها مجاناً بشكل غير قانوني، وهو أمر قانوني في الحالتين. التقرير نفسه لم يتطرق إلى أي أمثلة عن منافسي التيار الوطني الحر وحزب الله بتسمية واضحة رغم ذكره أن المستقلين المؤيدين لفريق 14 آذار كانوا الأكثر ظهوراً على القنوات الثلاث بإعلانات مدفوعة بنسبة 36%، يليهم حزب الحوار الوطني (33%) على قناة الجدبد. أما في «أل بي سي»، فتوزّعت النسب بين 26% لحزب الحوار الوطني و24% لحزب الهانشاك و16% للكتائب، مقابل 35% للكتائب على «أم تي في» و20% للقوات. ووفقاً للتقرير، لم تلتزم هذه القنوات إضافة إلى تلفزيون لبنان بمنح فرص متساوية لجميع المرشحين ولوائحهم. فالنسبة المئوية من التغطية الإجمالية للفاعلين السياسيين على «الجديد» جاءت على الشكل التالي: 36% للمستقلين المؤيدين لفريق 14 آذار، 10% للحزب الاشتراكي، 8% للتيار الوطني الحر، 7% للكتائب، 3% لحزب الله و2% لحركة أمل. أما «أل بي سي»، فخصّصت 33% من وقتها للمستقلين المؤيدين لفريق 14 آذار والمجتمع المدني مقابل 13% للتيار و13% للكتائب و7% للحزب الاشتراكي و3% لكل من القوات وحزب الله و1% لحركة أمل. وعلى «أم تي في»، حظي فريق 14 آذار والمجتمع المدني بـ 34% مقابل 16% للكتائب و15% للقوات و8% للتيار و4% للاشتراكي وأقل من 1% لكل من حزب الله وحركة أمل. بينما ارتفعت نسبة تغطية حزب الله لدى تلفزيون لبنان إلى 31% و19% للقوات و16% لحركة أمل و11% للاشتراكي و5% للتيار و3% للكتائب و2% للمجتمع المدني. وبحسب البعثة كانت التغطيات «محايدة»، باستثناء قناة الجديد التي غطّت بشكل سلبي حركة أمل وحزب الله والتيار الوطني الحر، و«أم تي في» التي غطّت حزب الله سلباً.