في زمن الوجود السوري في لبنان، كان أركان في الدولة يهمسون في مجالس خاصة، مع ديبلوماسيين أجانب، بأنهم لم يقصدوا ما أعلنوه من مواقف. وتشير وثائق «ويكيليكس» العائدة إلى الثمانينيات والتسعينيات إلى أن كثيرين كانوا يقولون، في جلسات النميمة مع السفراء والقناصل، إنهم مضطرون لمجاراة الحكم السوري في مواقفهم من الأزمات الكبرى. وما إن خرج الجيش السوري من لبنان، حتى خلع هؤلاء كل الأقنعة التي لبسوها وأطلقوا العنان لسموم وأحقاد ضد كل ما له صلة بسوريا، ووصل الأمر بمرضى مسيحيي 14 آذار إلى رفض النسب السوري لمار مارون نفسه.اليوم، تستمر سردية جماعة أميركا وإسرائيل والسعودية بأن لبنان تحت الوصاية الإيرانية، وأن حزب الله يسيطر على قرار الدولة. لكن «يصادف» - والله أعلم - أن غالبية وازنة من المسؤولين تطلق تصريحات علنية تهدف إلى نيل رضا الأميركيين والأوروبيين والخليجيين، وهم أنفسهم، عندما يجتمعون بحزب الله، يعتذرون ويتذرّعون بأنهم اضطروا لإطلاق هذه المواقف لئلا يتعرضون، هم أو لبنان، لمزيد من الضغوط والعقوبات.
يدرك الجميع أن حزب الله قد يكون الأكثر واقعية بين القوى السياسية في لبنان، لا بل صار شديد الواقعية إلى درجة أثّرت في روح التغيير المفترض أن تسكنه طوال الوقت. فالحزب يعرف أن البلاد ليست تحت وصايته، ويعرف، أيضاً، أنه يملك حق الفيتو الذي يمنع آخرين من فرض وصايتهم على البلاد. ولذلك، فهو لم ولا ولن يمانع وصول مسؤولين إلى سدة الحكم من الذين يملكون صلات تفاعل وليس صلات تكاذب مع الغرب والخليج. ويسود اعتقاد قوي في عواصم ولدى قوى رئيسية في البلاد أن الحزب لم يخض الانتخابات النيابية الأخيرة بهدف الفوز بها، لأنه لا يريد أن يتحمّل مسؤولية إدارة الأزمة وحده. وهو يقبل بكل أنواع التعاون مع القوى اللبنانية، بما فيها تلك التي ترتبط بعلاقات وثيقة مع الخليج والغرب. ومن هذا المنطلق يقرّر موقفه بشأن رئاسة الحكومة وبعض الحقائب والمواقف من قضايا حساسة، بما فيها التفاوض مع صندوق النقد الدولي.
لكن الحزب لا يكذب، على حلفائه الحقيقيين ولا على حلفائه الاضطراريين، عندما يتعلق الأمر بالصراع مع العدو الإسرائيلي. وهنا، يظهر التمايز الحقيقي، وهو ما نشهده منذ انطلاق المفاوضات غير المباشرة حول ملف ترسيم الحدود البحرية مع العدو بوساطة أميركية.
عندما أبلغ الحزب المسؤولين اللبنانيين أنه ملتزم قرار الحكومة حيال تحديد إطار الحقوق، بادر إلى إعلان تشكيل ملف حزبي خاص بالأمر، وسلّمه للنائب السابق نواف الموسوي المعروف بعمليته وخبرته في الشؤون الديبلوماسية والخارجية، والمعروف في الوقت نفسه بمواقفه غير القابلة لأي تفسير أو تأويل، والذي يعرف تاريخ الغرب والصهاينة مثلما يعرف تاريخ العرب ولبنان. وهو، حتى اللحظة، لم ينطق بأي كلمة حول ما يتابعه عن المفاوضات وعن التطورات المحيطة به لبنانياً وإقليمياً ودولياً وحتى إسرائيلياً.
حزب الله لا ينتظر المفاوض اللبناني لمعرفة ما يجري ولا يمكنه السكوت عند ملامسة الخطر


عملياً، قال الحزب إنه ليس طرفاً في لعبة التفاوض، وأعلن أنه يثق بما يلتزم به المسؤولون في الدولة حيال الثوابت التي تحفظ حقوق لبنان. وهو يدرك أن المفاوضات تحتاج إلى مناورات قد تجعل البعض يبدو متهاوناً، لكنه يدرك، أكثر، أن بين المسؤولين المشاركين في المفاوضات من مدنيين وغير مدنيين من لديه حسابات خاصة، سواء تتعلق بمراضاة الخارج خشية التعرض لعقوبات أميركية أو أوروبية، أو من يفترضون أنها فرصة لتسجيل نقاط في رصيد طموحاتهم السياسية لدى أهل القرار في الغرب. لذلك، يحرص الحزب على الاحتفاظ بحقه وقدرته على إجراء التواصل الضروري مع الجهات الداخلية والخارجية المتابعة للملف للوقوف على كل جوانب الرواية، وهو ما أتاح ويتيح له التثبت من كثير من الفصول التي تُروى بألف شكل في لبنان.
بالنسبة لحزب الله الأمر واضح: العدو، ومن خلفه الأميركيون، لا يريدون للبنان الاستفادة من حقوقه في البحر، ويفرضون كل أنواع العقوبات لمنع وصول الكهرباء، ولن يسمحوا للبنان بالحصول على ثروة تتيح له الخروج من أزمته الخانقة وتفتح الباب أمام معالجات لملفات كثيرة معقّدة.
كما يعرف الحزب نوايا العدو، بل يعرف أكثر عما يدور في أروقة القرار في المؤسسات السياسية والعسكرية والأمنية في الكيان، وهو واثق بأن العدو سيقود أكبر مناورة لتحصيل الحقوق من طرف واحد وإجبار لبنان ليس على التنازل فقط، بل وعلى الخضوع لإملاءات الخارج بشأن طريقة استخراج النفط وطريقة التصرف بالعائدات. وهو، لذلك، لن يقف مكتوف الأيدي إزاء ما يحصل.
وفيما كانت الجهات الرسمية اللبنانية تنتظر عودة السفيرة الأميركية دوروثي شيا بالرد الإسرائيلي من واشنطن، كان حزب الله قد تلقى، عبر جهة خارجية، فحوى الموقف الإسرائيلي الذي يرفض عرض لبنان بمقايضة حقل كاريش بحقل قانا، رغم أن الأمر بقي ملتبساً في الرد الذي حملته السفيرة الأميركية وحاولت تلطيفه بالحديث عن تفهم وإيجابية إسرائيليين، وأن تل أبيب قبلت العودة إلى الناقورة. فيما الواقع أن الجميع يعرف أن الرد لم يلامس حدود المطالب اللبنانية.
وحتى لا يقع أحد في المحظور، وتنتقل كرة النار إلى الحضن اللبناني، بادرت المقاومة إلى عملية المسيّرات السبت الماضي. ويبدو أنها كانت قد قامت بأمور أخرى قبل ذلك، الأمر الذي فهمه العدو على أنه الرسالة الأوضح حول خلفية الموقف اللبناني، كما فهم الأميركيون الرسالة أيضاً وربطوها بما سمعوه من مراجع رئاسية لبنانية عن أن لبنان لا يمكنه الموافقة على أقل مما حمله الوسيط عاموس هوكشتين، وهو قاله الرئيس ميشال عون بوضوح للسفيرة الأميركية طالباً منها العودة برد واضح ومكتوب.
لكن حفلة التهويل التي قامت بها الولايات المتحدة وعواصم أوروبية وعربية ضد لبنان بعد العملية، لا تعكس بالضرورة حقيقة الموقف في تل أبيب أو حتى في واشنطن. ومرة أخرى، وقبل أن تطلق السفيرة الأميركية حملتها المجنونة لاستصدار مواقف تدين المقاومة، كان حزب الله يتلقى مساء السبت اتصالات من جهات أوروبية وأممية تنقل له ما قالت إنه «رسالة إسرائيلية»، مفادها أن عملية المسيّرات «تصعيد خطير قد يؤثر في المفاوضات، لكن إسرائيل تريد احتواء الموقف، ولا رغبة في التصعيد أو الحرب، بل تريد ضمان استمرار المفاوضات للوصول إلى حل».
هذه الرسالة ليست هي التي نقلت إلى المسؤولين، حتى ارتكب رئيس الحكومة، ومعه وزير الخارجية، الخطأ في البيان – الفضيحة الذي لم تكن تنقصه إلا عبارة إدانة المقاومة. علماً أن مشاركين في الاجتماع بين الرجلين سمعا أحدهما يقول إن العملية تخدم الموقف اللبناني وقد وافقه الآخر، لكنهما اتفقا على ضرورة إصدار البيان.
كثيرون شمتوا بحزب الله لأنه تلقى الطعنة ممن سماه لترؤس الحكومة الجديدة. ومع أن الشامتين يعرفون أن السياسة لا تدار على هذا النحو في لبنان، إلا أن الجميع فهم أن موقف الحزب حاسم ومطابق لموقف الرئيس عون: لا مجال لأن تستخرج إسرائيل الغاز قبل تثبيت حقوق لبنان ومباشرة لبنان في استخراج الغاز. ومن لم يفهم معنى الرسالة، ليسمع ما يقال في تل أبيب عن أن ما قامت به المقاومة ليس سوى طرق للباب، وأن ما لديها من إمكانات يتيح لها تنفيذ وعدها بمنع العدو من سرقة حقوق لبنان، حتى ولو ثار العالم كله ضد لبنان... وهي ليست المرة الأولى!