ينشغل المسؤولون اللبنانيون بزيارة الموفد الأميركي عاموس هوكشتين لبيروت والمتعلّقة بملف ترسيم الحدود البحرية. لكن هذا الانشغال لا يحجب أن لبّ المشكلة يكمن في مكان آخر، في واقع النظرة الأميركية العامة المستمرة منذ أشهر طويلة تجاه الوضع اللبناني.منذ ما قبل اعتذار الرئيس سعد الحريري، ومن ثمّ تكليف الرئيس نجيب ميقاتي وتشكيله حكومته، وصولاً الى الانتخابات النيابية، لا يزال موقف واشنطن هو نفسه، إذ تنظر الى لبنان على أنها غير معنيّة بما يجري فيه. وآخر دلالات هذا التخلّي نصيحة أميركية رفيعة المستوى الى الإدارة الفرنسية بوقف التدخل في لبنان. لا بل إن واشنطن نصحت مسؤولين فرنسيين بعدم التورط في تفاصيل الوضع الداخلي ووقف مبادراتهم والخروج من كل الخطوات العملية التي يراد منها حل الأزمات اللبنانية المتشابكة. كان الموقف الأميركي واضحاً منذ أشهر، حين جرى الكلام عن ملف الكهرباء والنفط والانتخابات وتدريجاً الحكومة ورئاسة الجمهورية. وهذا الوضوح يترجم حتى الآن بعدم حلحلة أيّ من الملفات التي حكي عنها، ولا يزال الموقف الأميركي العام هو نفسه، رغم محاولات بعض المسؤولين اللبنانيين تأويله بخلاف حقيقته، والإيحاء بأن خطوط بيروت واشنطن مفتوحة على سلسلة إيجابيات.
ويتقاطع الموقف الأميركي مع الموقف السعودي الذي وإن برزت بعض ملامح الدفع به الى الأمام في ملف الانتخابات، إلا أنه ظلّ محصوراً بإطاره الانتخابي الضيّق فحسب. ولن يكون للملف اللبناني عناية سعودية خاصة، وخصوصاً على أبواب تشكيل الحكومة أو اقتراب فتح ملف رئاسة الجمهورية. وفي وقت ترتفع فيه الرهانات المحلية على وضع لبنان على طاولة الحوار الأميركي - السعودي خلال زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن المقبلة للرياض، فإن المتّصلين بدوائر أميركية وسعودية يجزمون أنّ لبنان لن يكون موضوعاً رئيسياً في أيّ مفاوضات أميركية - سعودية، وأيّ ذكر له سيكون عرَضياً. وتالياً، سيكون ذلك خطوة أميركية متقدّمة لإبلاغ الجميع أن إنقاذ الوضع اللبناني ليس من الأولويات.
في المقابل، ومنذ ما قبل الانتخابات الرئاسية الفرنسية، تحاول باريس إقناع واشنطن باستمرار العمل على مقاربة الملف اللبناني من زاوية عدم ترك لبنان ومساعدة الدولة ككل بدل الاكتفاء بدعم الجيش فقط. لكن واشنطن لم تقتنع بوجهة النظر الفرنسية، بل إنها تبدو، منذ أشهر طويلة، كأنها تصرّ على تحييد نفسها عن أي مبادرات فرنسية، الى أن جاءت النصيحة الأخيرة واضحة بضرورة توقف باريس عن محاولاتها «الإنقاذية».
دخل الفرنسيون، قبل إعادة انتخاب الرئيس إيمانويل ماكرون وبعدها، على خط الأزمة اللبنانية، حتى قبل انفجار المرفأ وإطلاق مبادرتهم. ولا تزال فرنسا متشبّثة بموقفها حيال استكمال مبادرة ماكرون وسعيها الى وضع عناوين عريضة لحلّ مجموعة المشكلات السياسية والمالية والاقتصادية. إلا أن النقطة الأبرز في مقاربتها للوضع الداخلي أنها تريد تأكيد دورها في فتح أقنية حوار دائمة مع كل القوى السياسية، وما يبرز منها في شكل متواصل علاقتها مع حزب الله، ولا سيما بعد زيارة ماكرون لبيروت وبدء التواصل بين الطرفين. ولا شك في أن واشنطن لا تنظر الى هذا النوع من العلاقات بعين الرضى، وإن كان حثّها باريس لا يتعلق حصراً بهذا الجانب بل يشمل الوضع اللبناني برمته وعلى كل المستويات.
لبنان لن يكون موضوعاً رئيسيّاً في زيارة بايدن للسعودية

ورغم وضوح النصيحة الأميركية الأخيرة، تسعى فرنسا الى تحييد نفسها عن الموقف الأميركي، وهو ما برز أخيراً عبر استئناف اتصالاتها وحركتها الدبلوماسية في بيروت. وهذه رسالة في حد ذاتها لإبلاغ القادة اللبنانيين أن باريس مستمرة في المنحى الذي رسمه ماكرون منذ لقاء قصر الصنوبر، وصولاً الى دعم تشكيل الحكومة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، بعيداً عن كل ما يصلها من نصائح. ومن المتوقع في المرحلة الفاصلة بين تكليف رئيس جديد للحكومة واستحقاق رئاسة الجمهورية أن يتضاعف الدور الفرنسي وتتكثّف مساعيه لإيجاد حلّ للعقد التي ستوضع حكماً على طريق تشكيل الحكومة. لكن وفق معلومات، فإن ما جرى بين باريس والرياض بعد زيارة ماكرون للسعودية في كانون الأول الماضي والاتصال الذي تخلّلها بين وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان ورئيس الحكومة، بقي بلا مفاعيل عملية سياسياً، وأيّ رهان على استئناف خط التواصل مع السعودية في هذا الشق من السعي الفرنسي لن يكتب له النجاح. وهذا يعني، في خلاصة وحيدة، أن باريس في تعاطيها في الملف اللبناني لا تزال وحيدة من دون شركاء، وأن استمرارها في القيام بدور الوسيط المفاوض مع الجميع من دون استثناء، ولا سيما مع رفع مستوى اتصالاتها مع حزب الله، بدأ يفرز محاذير، سيكون الوضع اللبناني متضرّراً منه عموماً، ولا سيما إذا استمر الرفض الأميركي كما هو ظاهر حتى الآن في رسم خريطة ولو أولية لمعالجة الأزمات اللبنانية ووضع الاستحقاقات المتتالية على طريق إجرائها.