لم يكن يوم الانتخاب الطويل في دائرة بعلبك - الهرمل (دائرة البقاع الثالثة) جديداً. رغم وجود ست لوائح تتنافس في المنطقة، إلا أن ذلك لم يخلق معركة، إذ لم يحمل «التغييريون» ولا «المنتفضون» من العشائر إلى بعلبك - الهرمل شيئاً من ريح الثورة. بقي التنافس، كما في الدورات السابقة، بين لائحتين أساسيتين: الأولى المدعومة من الثنائي وحلفائهما وضمّت 10 مرشحين ولائحة «بناء الدولة» المدعومة من القوات اللبنانية بشكل أساس، فيما اللوائح الأربع المتبقية، غير المكتملة، بقي وجودها أقرب إلى الصدى.أمس، كانت انتخابات المنطقة بين «معقلين»: الثنائي الشيعي في مدينتي بعلبك والهرمل والقوات اللبنانية في دير الأحمر وتوابعها. ولم يكن ثمة طرف ثالث قادر على أن يملك فائضاً في القوة. لذلك، انعكست المنافسة بين صوتين أساسيين: الصوت الشيعي الذي انشغل حزب الله وحركة أمل، منذ ساعات الصباح الأولى وحتى إقفال الصناديق، في حث «الأوفياء للدم» على الاقتراع لرفع الحاصل، وبين الصوت الماروني الذي كان يحاول في المقابل الحفاظ على «إرث القوات» في الدير، من خلال ضمان إبقاء أنطوان حبشي نائباً. ووسط هذا وذاك، فعلت المقاطعة فعلها في الصوت السني الذي بدا خجولاً، حدّ الغياب.
تعدّ منطقة بعلبك ـ الهرمل ما يقرب من 350 ألف ناخب، 240 ألفاً منهم من الشيعة و45 ألف سني ومثلهم من المسيحيين، كانوا أمس على موعد مع استحقاق لم يهدفوا فيه إلى التغيير بقدر ما كانوا يسعون إلى تثبيت فائض القوة والبيعة... كل في معقله.

بعلبك وقرى الغربي
في المناطق ذات الثقل الشيعي أو الغالبية الشيعية، لا مكان للمعارك. هنا، الناس «ناس الحزب»، والصوت الذي يدلون به أقرب إلى الاستفتاء و«تجديد البيعة» منه إلى التصويت في معركة «مسوكرة» نتائجها في تلك القرى، وهي في غالبيتها قرى غربي بعلبك والجزء الغالب من مدينة بعلبك نفسها والهرمل. وهنا أيضاً، يمكن أن تألف كلمة «الله يآجرك» بعد الإدلاء بالصوت. لذلك، ليس مستغرباً أن ترتفع اللافتات المهنئة بالفوز حتى قبل أن تفتح صناديق الاقتراع أمام المقترعين، كما الحفلات المتنقلة على الطرقات.
على الطريق الفاصلة بين تلك القرى ومدينة بعلبك، تضيع صور المرشحين من بعض اللوائح المتنافسة في بحر الرايات الصفر... وإصبع يد السيّد، قبل أن يستكمل المشهد في مدينة بعلبك. في المراكز الخمسة الأساسية في المدينة، تخطت نسبة الإقبال على الاقتراع ما كانت عليه في الدورة السابقة. ولا يستغرب مندوبو الأحزاب، وتحديداً حزب الله، هناك الأمر، خصوصاً «بعد خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي عدّل في الآراء، وتحديداً من كانوا مترددين»، على ما يقول أحد المندوبين في مركز متوسطة بعلبك الأولى المختلطة الذي يعدّ ما يقرب من 3600 مقترع. لا مكان في ذلك المركز لغير مقترعي لائحة «الوفاء والأمل»، حيث يصبح البحث عن مقترعين من اللوائح الأخرى ومندوبي الأحزاب داخل أقلام الاقتراع أشبه بالمهمة المستحيلة. يعلّق أحد المندوبين على غياب هؤلاء بـ«أنهم انسحبوا من تلقاء أنفسهم لأنهم لم يجدوا ما يفعلونه، خصوصاً أن هذا المركز يعد من أكبر المراكز بعدد المقترعين لحزب الله وحركة أمل وحلفائهم».
معركة الصوتين الماروني والشيعي فيما الغائب الأكبر الصوت السني


من المتوسطة الأولى إلى مجمّع المدارس (أحياء الريش الشرقي والغربي والشميس) الأكبر في مدينة بعلبك والذي وصل عدد المقترعين فيه في الدورة السابقة إلى 18 ألفاً، يتكرر المشهد نفسه. مقترعون... باللون نفسه. الأصفر. والسيارات بالرايات الصفر أيضاً ومكبرات الصوت التي «تخوض البحر» مع السيّد. رغم «الطلعة» المرهقة نحو أعلى التلّة حيث المجمّع، لم تهدأ حركة الناس الذين ترك معظمهم سياراتهم في وسط الطريق وانطلقوا إما سيراً على الأقدام أو في عربات «التوك توك» أو في سيارات الهيئة الصحية التي كانت تنقل العاجزين عن الانتقال وكبار السن. ليست الطريق وحدها هي ما يعجّ بالناس، فأقلام الاقتراع كانت تغص بهم. وهنا أيضاً، كان البحث عن ناخبي ومندوبي اللوائح الخمس من غير لائحة الوفاء والأمل «بالسراج والفتيلة»، وكان الاستدلال عليهم في الغالب من السترات الحمر أو «كنزات قادرين».

تغريبة السنة
في مركز الاقتراع في حي القلعة، لا يختلف المشهد كثيراً، رغم ما يميّز هذا المركز من حضور للناخبين المسيحيين، إضافة إلى السنة والشيعة، وحضور لمندوبي اللوائح الأخرى، وتحديداً مندوبي القوات اللبنانية. لكن، حتى هذا الوجود كان خفيف الظل ولم ينعكس معركة على الأرض. أما في حي الصلح، حيث مجمع «الأبرار» وحيث الثقل السني، إذ إنه بحسب اللوائح يقترع ما لا يقل عن 3700 «كلهم من الطائفة السنة»، على ما يقول المختار تامر صلح، كانت التغريبة السنية مقلقة، إذ إنه حتى ساعات بعد الظهر، لم يصل عدد المقترعين في ذلك المركز إلى 1000. ويرجع العارفون بأحوال الصوت السني هناك الفتور إلى سببين أساسيين «أولهما التزام البعض بالمقاطعة وثانيهما أن البعض الآخر كان يعوّل على أن تقوم بعض الجهات بشراء أصواتهم». مع ذلك، كان ثمة حراك ثالث على صعيد هذا الصوت، وهو ما سعى إليه الملتزمون بقرار الرئيس سعد الحريري بمقاطعة الانتخابات، بـ«سحب بطاقات الهوية من المحسوبين عليهم كي لا يقترعوا». أما الصوت الذي بقي، والمقسوم بين ثلاث عائلات أساسية كبرى (صلح والرفاعي والشل) فقد توزع وفق بعض الحسابات. «آل صلح كان لديهم مرشحان هما ينال صلح على لائحة الوفاء والأمل وخالد صلح على لائحة معاً للتغيير، ولذلك كان التصويت مشكّلاً لكون الاثنين أولاد عم، أما عائلة الرفاعي فلم يكن لديها مرشح من العائلة ولذلك ذهبت أصوات منهم وخصوصاً من يمثلون الأحباش وجمعية المشاريع للمرشح ينال صلح». مع ذلك، يشعر هؤلاء بأنهم متروكون، هذا ما يقول المختار صلح، فـ«غربة» الرئيس سعد الحريري في الوقت الذي اجتمع فيه الآخرون انعكست تشتتاً في المدينة وبقية المناطق، ومنها منطقة عرسال التي تضم «ثلثي الأصوات السنية» التي تبلغ نحو 46 ألف صوت.

تكاد تخلو المدينة، كما القرى غربها، من مشهد المعركة التي كانت تحدث في زحلة. كانت ثمة طمأنينة (مبالغ بها؟) لما سيضعه الناس في الصناديق. يعوّل العاملون في الماكينة الانتخابية الوحيدة في المدينة، وهي ماكينة حزب الله، على «الدم يللي ما بيصير مي عند أهل بعلبك». وهذا ما بدا واضحاً في إجابات المقترعين، إذ يكفي أحدهم مثلاً أن يضع اللائحة كما هي «طالما أن من فيها نقّاهن السيد/، أو مثلاً أن ترفض سيدة عجوز وضع مغلّفها في الصندوق بناء على طلب رئيس القلم «لأنو بدي أعطيها لأبو الأصفر»، في إشارة إلى مندوب حزب الله للائحة الوفاء والأمل. على «حجّة السيد»، كان الصوت الشيعي أمس «بلوك واحد»، على ما يقول الواقع على الأرض وما كانت تقوله أرقام ماكينة حزب الله الانتخابية، والتي كانت أشبه بخلية نحل. ومنذ ساعات الصباح الأولى، كانت الشاشة مثبتة في القاعة الرئيسية في حسينية الإمام الخميني بانتظار حسابات الأصوات الآتية من الدوائر الثلاث في البقاع، وليس بعلبك ـ الهرمل فقط، وإن كانت للدائرة الأخيرة حماستها، حيث التعويل على تكثيف الاقتراع ورفع الحاصل الانتخابي بما يضمن «ربحاً صافياً». وهذا أمر دونه هدف أساسي: «تنخيب» العدد الأقصى من «أبناء لائحة الوفاء والأمل» والحلفاء، وهو ما ترجم بالدعوات في آخر النهار «للأوفياء الذين لم ينتخبوا بعد للإسراع إلى مراكز الاقتراع».
كانت الورشة في الماكينة تسير لحظة بلحظة، حيث كان يتابع هؤلاء على الشاشات أمامهم الأرقام التي ترد من الأقلام في المنطقة. ووفق الأرقام، حتى إقفال باب الاقتراع، كانت نسبة المقترعين في دائرة بعلبك الهرمل تلامس الـ، 55%، وهي من النسب الأعلى في الانتخابات.

دير الأحمر: بلوك القوات
لم تنفرد بعلبك وحدها بهذا الصخب، ففي بلدة دير الأحمر ـ معقل القوات اللبنانية وخيمتها ـ كانت الأجواء عاصفة. إذ لم يستوعب قلما الاقتراع الأساسيان عدد الناخبين، وتحديداً «الموارنة منهم» الذين كانوا أشدّ المتحمسين لهذا اليوم. وفي السبب المباشر لهذا الأمر هو أنطوان حبشي، ابن المنطقة «صاحب البيت المفتوح»، كما يصفه أبناء منطقته. أما السبب الآخر، فهو «وجودهم».
أمس، اجتمع أبناء الدير في منزل مرشحهم يتابعون مجريات الانتخابات، فيما ماكينة القوات اللبنانية تتابع بالأسماء «من انتخب ومن لم يأت»، كما يتابعون أخبار «أولاد العم في عرسال، حيث الثقل السني، والذي نتوقع أن يحمل المفاجآت». يقدّر عدد المسيحيين في الدير وغربها (القاع ورأس بعلبك والفاكهة....) ومناطق السهل في البقاع الأوسط (سرعين، بيت شاما...) بـ46 ألفاً، كافح حزب القوات لرفع أعداد المقترعين منهم للائحة بناء الدولة، حيث «عنا كتار بيصبوا عند الدكتور حبشي والياس البيطار».
اختصرت «معركة» بعلبك - الهرمل بمعركة الصوتين الماروني والشيعي. الأول الذي يطمح لإبقاء حبشي نائباً في الندوة البرلمانية ومن خلفه يحفظ القوات معقلهم في المنطقة، والشيعي الذي يجهد لرفع الحاصل بما يضمن ربح لائحة الوفاء والأمل بكامل أعضائها، فيما الغائب الأكبر الصوت السني.