«أصبح السيناريو مألوفاً. يُعلن عن إجراء انتخابات في بلد في مرحلة انتقال سياسي، وله أهمية للمجتمع الدولي، بما يجعلها تبدو مفصلية للأفق الديموقراطي في هذا البلد. قبل أشهر من التصويت، يأتي أول المراقبين الأجانب، بعض الأشخاص من أميركا أو أوروبا الغربية، ويستقرون للإشراف على العملية الانتخابية من البداية حتى النهاية. في الوقت نفسه، ينشئ فريق صغير من المستشارين الأجانب دكاناً في البلد لمساعدة هيئة الانتخابات الوطنية في عملية إدارة الانتخابات. بعد بدء العملية الانتخابية وتسجيل المرشحين وبدء الحملات، تأتي عدة بعثات مسح/دراسات ما قبل انتخابية من الخارج لتقييم الجو السياسي والتحضيرات الإدارية وفترة الحملات الانتخابية المبكرة، وتصدر تقارير تثير الكثير من الجدل في البلد الخاضع للتدقيق، وتلفت الانتباه إلى جوانب التقصير في العملية، وتدفع السلطات السياسية لاتخاذ خطوات علاجية. هذا السيناريو يصلح لأن يكون في نيكاراغوا أو البوسنة أو روسيا 1996».توماس كاروثرز، صعود مراقبة الانتخابات: المراقبون تحت المراقبة، 1997

نشرت هذه الورقة جامعة هوبكينز الأميركية، أما الباحث فهو محام أميركي خبير في شؤون دعم الديمقراطية الدولية والسياسة الخارجية الأميركية، سبق له العمل في وكالة التنمية الأميركية (USAID)، وهو يتقلّد منصباً بحثياً رفيعاً في صندوق كارنيغي للسلام العالمي. في الورقة، يسرد الرجل انتشار ظاهرة مراقبة الانتخابات في الثمانينيات، ويرى فيها منافع كثيرة. مع ذلك، يعترف ببعض إشكاليات هذه البعثات، منها التركيز المفرط على يوم الانتخابات وحده، ونقص الخبرة لدى بعض جهات المراقبة التي تهمل التركيز على ما هو خارج عملية الاقتراع بحد ذاتها، وإهمال فترة الترشح المليئة بالتشوهات.
هنا، يعطي مثال الانتخابات الروسية عام 1996، فيفصّل التلاعب والانتهاكات التي أوصلت بوريس يلتسن إلى الرئاسة لولاية ثانية. ومع ذلك، يعتبر أن هذه الانتهاكات لا تنزع الشرعية عن الانتخابات ولا تنتقص من أهميتها لروسيا وللغرب. بمعنى أوضح: شرعية الانتخابات غير مرتبطة بالالتزام بأي معايير، بل بأهميتها ومدى تحقيقها للمصالح الغربية في بلد ما.
لكن ما يغفله الكاتب هو أن هذه المخالفات، عام 1996، قام بها الفريق الأميركي الذي أتى لإنقاذ يلتسن من المأزق الذي غرق فيه باتباعه للسياسات الأميركية. في تلك الانتخابات، كانت هناك مصالح رأسمالية غربية تعتاش على الفساد وبحاجة إلى دمية محلية، وداعمين دوليين ليلتسن، ومراقبين دوليين أيضاً، لذا مرّت الانتهاكات الانتخابية من دون أي ضجيج، وفاز الرجل بالولاية الثانية.
عند مراجعة الحدث، يتملّص الباحث من المسؤولية الأميركية عن سرقة الانتخابات الروسية. لا بل يعتبر أن لا خط فاصلاً يمكن اعتماده لتمييز الانتخابات «الحرة والنزيهة» عن غيرها، ولا معايير واضحة لتعريف كهذا، بل إن فكرة معادلة بسيطة لأمر كهذا هي فكرة غير واقعية.
إشكالية أخرى يعترف بها هي تحيز المراقبين من جوانب ثلاثة: الأول فوقي استعلائي - وإن لم يستخدم هذا التعبير - إذ إن المراقبين يغضّون النظر عن كثير من الانتهاكات من باب أن شعوباً كهذه لا يمكن أن تتوقع منها الالتزام بالفن الانتخابي الرفيع الذوق الخاص بالغربيين. الثاني من باب اللياقة، إذ إن المراقبين المدعوين من قبل حكومة ما يقلّلون من شأن المخالفات تجنباً لإحداث جلبة سياسية مع الدولة المضيفة خصوصاً إذا كانت لهذه المنظمات مشاريع أخرى داخل الدولة تحتاج إلى علاقات جيدة على المدى الطويل. التحيز الثالث، والأهم، هو إقراره بأن المراقبين يتبعون أجندات سياسية وأيديولوجية تدفعهم إلى التسامح مع مخالفات وتضخيم أخرى بحسب ميولهم السياسية.
بدأت بعثات غربية التشكيك في الانتخابات منذ أشهر بعد استطلاعات رأي مخيبة للسفارات الغربية


يعدّد الباحث المؤسسات الدولية التالية كجهات مختصة بمراقبة الانتخابات: مركز كارتر والمعهد الديموقراطي الوطني NDI والمعهد الجمهوري الدولي IRI من الولايات المتحدة، معهد أوروبا، والبعثات المرسلة من الحكومات الأوروبية، والمجموعات البرلمانية والحزبية، والأمم المتحدة UNEAD، ومنظمة الدول الأميركية OAS، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا OSCE، والاتحاد الأفريقي. وتضاف إليها المؤسسة الدولية لنظم الانتخابات (IFES) التي، بحسب «ويكيليكس»، تبدو جزءاً من ترويكا أميركية معتمدة للتدخل الانتخابي في دول عدة منها لبنان والعراق وغيرهما من الدول المستهدفة أميركياً. وتتألف الترويكا من IFES وNDI وجمعيات «محلية» ممولة من جهات غربية إن لم تكن أميركية على وجه التحديد. وهي تلعب أدواراً مختلفة كما يرد في بحث كاروثرز، لكنها مكمّلة لبعضها بعضاً، من متابعة المرحلة التحضيرية إلى استطلاعات الرأي وإصدار التقارير فمراقبة العملية الانتخابية. ومرجع كل المؤسسات المذكورة، سواء كانت أميركية أو أممية أو أوروبية، هي مبادئ الأمم المتحدة لمراقبة الانتخابات التي تم تبنيها من قبل 55 منظمة شبه حكومية. لكن هذه المبادئ التي ترفع يافطة الأمم المتحدة تعود لـ«NDI» في الحقيقة، كما يتضح على موقع الصندوق الديموقراطي، فهي التي أدارت كل عملية إنشائها وتبنيها، ولم تكن الأمم المتحدة إلا مدعوّة لحمل اسمها.

نزع شرعية مسبق الدفع
استطلاعات الرأي، كما تقول ورقة كاروثرز، جزء من الباقة الأساسية الجاهزة التي يستخدمها الغرب في «مراقبته» للانتخابات للدول الانتقالية. وبناء على استطلاعات الرأي التي أجرتها سفارات غربية عدة في لبنان، والتوقعات المخيبة للآمال لكل ما يسمى بالقوى التغييرية والسيادية التي ركبت موجة 17 تشرين، بدأت تظهر منذ أشهر تقارير تشكك بشرعية الانتخابات بشكل مسبق، منها ما هو أميركي، ومنها ما هو سعودي وقطري، ومنها ما هو أوروبي. كل من اكتشف أنه حصانه خاسر أصدر تقريراً أو مقالاً ينزع الشرعية عن الانتخابات. على سبيل المثال، هناك بيان بعثة الـ«NDI» الافتراضية للانتخابات اللبنانية، وهي بعثة افتراضية بحجة «كوفيد»، مع أنها عملت منذ منتصف شباط الماضي. أعضاء البعثة من الأردن وجورجيا وكندا، علماً أن رئيسة فرع الصندوق في لبنان مسؤولة جورجية الجنسية - وجورجيا من الدول المخترقة أميركياً حتى النخاع. توصلت اللجنة إلى أن حرية وديموقراطية هذه الانتخابات في خطر بسبب الميزانية الهزيلة وصعوبة وصول المقترعين بشكل عادل خصوصاً مع شح الوقود والأزمة الاقتصادية، من دون أي ذكر للدور الأميركي في هذه الأزمات. بعض المبررات الأخرى التي ذكرها البيان القديمة التي كانت موجودة في انتخابات 2009 و2018، مثل مراعاة حقوق ذوي الاحتياجات الخاصة ودعم المرأة في الترشح ومسائل الجندرة، أصبحت اليوم عقبة في وجه شرعية هذه الانتخابات، فيما كانت سابقاً مسائل هامشية حين هللت المؤسسة لنزاهة الانتخابات الماضية. في البيان أيضاً، يبدو الخوف واضحاً من تداعيات مقاطعة السنّة للتصويت، واحتمال التعويل على هذه المقاطعة كأداة للطعن في شرعيتها، كما يبدو واضحاً التعويل على تصويت المغتربين، من دون أي ذكر للتخويف الذي يتعرض له من لا يؤيدون «الثورة» في الخليج والغرب.
مستوى أعلى من الطعن في شرعية الانتخابات صدر على موقع «معهد كارنيغي للسلام العالمي» في مقال لنيكولاس نو بعنوان «كارثة لبنان الانتخابية التي تلوح في الأفق». صدر المقال نهاية شباط الماضي، ويقول بـ«البنط العريض» إن «الانتخابات البرلمانية اللبنانية الأولى بعد الانتفاضة ستتسم غالباً بمستوى غير مسبوق من الفساد والتلاعب إلا إذا تم إبرام اتفاق دولي يسمح للبنانيين التصويت بحرية وأمن نسبيين». لم يعبأ نو بتبرير هذه الادعاءات بأي شواهد ودلالات ملموسة تؤكد نبوءاته السوداوية، بل أكثر من ذلك، توقع أن تسود لبنان الفوضى بعد سرقة صوت اللبنانيين الانتخابي، خصوصاً أن الدولة ضعيفة و«الجيش هزيل ويعتمد على المعونات الخارجية لتأمين لقمة عيشه».
أما أعلى سقوف الطعن المسبق فجاء من «الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات» (لادي). في مقال لها على موقع مؤسسة «هاينرش بُل» الألمانية، وهو موجه للمراقبين الدوليين، تؤكد أن انتخابات العام 2018 كانت غير ديموقراطية وغير حرة، وتحذر المراقبين الدوليين من أن سير العملية الانتخابية بشكل سلس ونظامي لا يكفي لإعطائها الشرعية، لأسباب أهمها أن مراقبة العملية الانتخابية بحد ذاتها لا يلحظ عامل الزبائنية السياسية أو لا يأخذ في الاعتبار اختلاف وزن الصوت الانتخابي بين المناطق، من بين مسائل أخرى لم تتغير منذ انتخابات 2009 التي راقبتها المؤسسة ولم تشكك في شرعيتها حينها، رغم العدد الكبير من المخالفات التي رصدتها بنفسها. طبعاً، «هاينرش بُل» من اللاعبين المنحازين سياسياً في الساحة اللبنانية، كما هي الـ NDI، المؤسسة الأم التي ساهمت في نشوء «لادي». وفي ظل كل هذه المعطيات يبدو أن المراقبين بحاجة إلى مراقبة، ويجب التأكد من عدم انحيازهم على مستوى الساحة الداخلية، وعدم الارتباط مع جهات وأجندات خارجية، حتى لا يتحولوا لاعباً انتخابياً، ويفقدون شرعية المراقبة.



السفير الأميركي في موسكو متلبّساً


عيّن مايكل مكفاول سفيراً أميركياً لدى روسيا قبيل انتخابات برلمانية شديدة الأهمية نهاية فترة حكم دميتري ميدفيديف عام 2011. ومكفاول مختص بالشأن الروسي قبل أن يكون سفيراً، وهو من مؤسسي «معهد كارنيغي» - موسكو ، ومن الأشخاص المحوريين لما سمي بـ«إعادة الضبط» للعلاقات الأميركية - الروسية، وهي في الظاهر إصلاح العلاقات بين البلدين، أما في العمق فهي توق إلى إعادة إخضاع روسيا كما كانت الحال أيام يلتسن.
في كتابه الصادر عام 2018 بعنوان «من الحرب الباردة إلى السلام الحار»، كتب مكفاول أنه خطط لأن تكون الـ 100 يوم الأولى في منصبه الجديد من دون ضجيج، وأن يتحرك بوتيرة منخفضة، وأن يلعب بطاقة حبّه لروسيا والثقافة الروسية، إلا أنه فشل بسبب حملة روسية ظالمة تتهمه بالتآمر على الحكم في روسيا. وشرح مكفاول لماذا يفضل ميدفيديف. فالأمر هنا لا يتعلق بحرية الروس أو بالديموقراطية أو بمحاربة الفساد، بل لأن ميدفيديف فرض عقوبات على إيران، وفتح لأميركا خط إمداد على أفغانستان، ولبّى طلب واشنطن بامتناع روسيا عن التصويت في الأمم المتحدة حيال قصف ليبيا، وبكلام مكفاول نفسه «لم يوجد قائد سوفياتي أو روسي يقبل بتدخل عسكري غربي ضد دولة ذات سيادة على الإطلاق» سوى ميدفيديف.
وكان مكفاول قد التقى والرئيس السابق للـCIA ويليام بيرنز بقادة المعارضة خلال أسابيع من وصوله، وهو المسؤول عن تمويل USAID لمنظمة «غولوس» «المحلية» لمراقبة الانتخابات، ومع ذلك يدعي أن من الظلم تصويره كمحرك انقلابي أو مدير لثورة ملوّنة تستهدف روسيا. و«غولوس» مثال على المنظمات التي ترافق عمل الـNDI و IFES ومهمات المراقبة الأوروبية، ولها فرع في روسيا، كما تنتشر في شرق أوروبا ودول الاتحاد السوفياتي السابق، وقد أثير حولها عدد من الفضائح أدّت إلى طردها من روسيا الصيف الماضي.


زيمبابوي: المعارضة والمراقبة والعقوبات في نفس المطبخ
العلاقات الأميركية مع زيمبابوي بدأت بطريقة ملتبسة. فحركة التحرر في البلاد كانت قد انشقت إلى حزبين أحدهما موال للاتحاد السوفياتي والثاني للصين، والأخير هو الذي انتصر في النهاية تحت قيادة روبرت موغابي. حينها قرع كيسنجر ناقوس الخطر، وتدخل شخصياً للتفاوض على إيان سميث الرئيس الأبيض البريطاني الأصل، لمنع الراديكالية من السيطرة على القارة السمراء كما صرح بنفسه. عندما بدأ موغابي بتأميم الأراضي المنهوبة من قبل الأقلية البيضاء وإعادتها لأهل البلاد الأفارقة بعد التحرير، بدأ الأميركيون يعملون من تحت الطاولة لإسقاطه، ولم يتوقفوا حتى اليوم بعد وفاته، لأن تأميم الأراضي هو وصفة تحرر ملهمة وضرورية لدول جوار زيمبابوي من جنوب أفريقيا إلى ناميبيا، وهو أمر خطير جداً للمصالح الأميركية.
محاولات الإسقاط عديدة، إحداها انتخابات عام 2002 التي تظهر وثائق «ويكيليكس» أن الأميركيين كانوا يظهرون أنفسهم كطرف حليف للبلاد مقابل البريطانيين والأوروبيين المستعمرين، وكيف كانوا يحاولون إقناع زيمبابوي بقبول البعثات الأوروبية للمراقبة، وفي الوقت نفسه ينسقون مع الأوروبيين توقيت العقوبات على البلاد بعد قبول بعثاتهم، ومع البريطانيين والمعارضة لإسقاط موغابي. العقوبات والمراقبة والمعارضة كلها كانت من تنسيق السفارة الأميركية.


فنزويلا: حول جدوى المراقبة
لا تكاد تخلو دولة لاتينية من التدخل الأميركي في انتخاباتها، وأهمها طبعاً فنزويلا. ورغم إدراك السلطات الفنزويلية بالدور التجسسي لهؤلاء المراقبين، إلا أن كاراكاس تستقبل هذه البعثات كل مرة، للتأكيد على ديموقراطية الحكم فيها.
في الانتخابات الأخيرة عام 2018، بدأ مسؤولون غربيون التشكيك في شرعية الانتخابات بشكل مسبق. ورغم من أن هذه الانتخابات الأكثر خضوعاً للمراقبة في العالم بأنظمة مراقبة رقمية وحماية محكمة، بشهادة الصحافي البريطاني الكندي جيرمي فوكس الذي كان بين المراقبين، لم يمنع ذلك الدول الغربية من اختراع رئيس شرعي بديل لمادورو، وهو خوان غوايدو، من دون أي دليل على شرعيته أو شعبيته أو حتى قبوله لدى الجماهير الفنزويلية. وبمعيته تم تشديد العقوبات على بلاده وسرقة الذهب الفنزويلي لدى بريطانيا.