بعد الذي حصل في سوريا خلال الأشهر الأربعة الماضية، أيقنت حكومات ودول وأجهزة وخلايا إرهابية أن المواجهة مع حزب الله صعبة ومعقدة. لقد نجح الحزب، ليس فقط في كشف وتعقب قسم كبير جداً من المتورطين في الأعمال الإرهابية ضد جمهوره وضد لبنان وسوريا، بل هو أظهر مثابرة غير مسبوقة في مطاردة هؤلاء اينما توجهوا، في لبنان أو سوريا، في مناطق نفوذه أو مناطق نفوذ وسيطرة حلفائه أو خارجها أيضاً. حزب الله في هذه الحالة لا يمزح، وقدراته على الصعيد الأمني غير قابلة للتدقيق إلا من حيث النتائج التي تحققها.
عملياً، نجح الحزب في تدمير القواعد اللوجستية الرئيسية لمجموعات الانتحاريين في سوريا وعلى الحدود مع لبنان. ووجه ضربات مباشرة وقاتلة إلى غالبية الأفراد المتورطين في هذه الأعمال تخطيطاً ومشاركة وتنفيذاً. وهو نجح بالتعاون مع أجهزة الأمن في لبنان وسوريا وآخرين، في تفكيك خلايا كبيرة كان يمكنها القيام بالكثير.
صحيح أن نتائج ما حصل أضعفت إلى حد كبير قوة الإرهابيين. لكن حزب الله لم يعمد، لا في الميدان ولا في المناطق التي له فيها نفوذ كبير، إلى أي إجراء عملي من شأنه القول إنه اطمأن إلى النتائج. الحزب قدّر أنه حقق ضربات تضعف المجانين إلى حد كبير. لكن الحزب يعرف تركيبة هؤلاء، ولديه من المعطيات ما يكفي للإشارة إلى استمرار النشاط العملاني من جانب مجموعات تسعى إلى إعادة تنظيم نفسها، والحصول على الدعم الكافي لاستئناف نشاطها الإرهابي.
ليس منطقياً القول بأن هناك تكاملاً بين التنظيمات المتفرعة عن القاعدة وبين حكومات قطر والسعودية وتركيا. لكن هناك قدر كبير من التقاطعات، وأساسه أن هذه الدول، كما الغرب وإسرائيل، لا يجدون في الميدان سوى مقاتلي القاعدة وفروعها للصمود على الأرض، وخصوصاً بعد الفضائح غير المسبوقة لكل العصابات المسلحة الأخرى، ولا سيما التي وُصفت بالقوى العسكرية المعتدلة. وصار العبور لتوجيه ضربات إلى محور إيران - العراق - سوريا - حزب الله، يمرّ إلزاميا بتنظيم «القاعدة» وحلفائه وإخوته المتقاتلين معه.
تصرف الجميع على أساس أن الإرهاب المسلح الذي ينتشر في العراق بقوة أخيراً، والذي نجح في السيطرة على مناطق باتت خارج سيطرة الدولة العراقية، هو الإرهاب الذي يفترض به تحقيق توازن بعد مسلسل الخسائر القائمة في سوريا ثم في لبنان. وحالة النشوة التي أصابت الحكومات المتورطة في هذا الإرهاب، مقتصرة على مكاسب سياسية ينشدونها في العراق وسوريا. لكن حالة النشوة التي ظهرت عند أنصار «داعش» تجاوزت المقدر من قبل هؤلاء، وهي حالة دفعت عدداً غير قليل من المجموعات إلى تفعيل محركاتها، إما لمحاكاة إنجازات «داعش» والتناغم معها، وإما للظهور بمظهر القادر على القيام بما تقوم به «داعش»، وهي حالة موجودة بقوة عند مجموعات على صلة بجبهة النصرة وكتائب عبد الله عزام.
هناك من يدفع لبنان باتجاه استئناف مرحلة التوتر التي سبقت حسم معارك مدن القلمون
ولأن السلسلة متصلة بعضها ببعض، وهناك مشغل مركزي لها موجود في منطقتنا، ولأن الغايات السياسية بعد الانتخابات الأخيرة في سوريا التي منحت الرئيس بشار الأسد حاضنة شعبية كبيرة، ثم الانتخابات البرلمانية العراقية التي ثبتت نوري المالكي في رأس السلطة، وفشل التمديد لميشال سليمان في لبنان، كل ذلك كان متوقعاً له أن يدخل تعديلاً على آليات العمل في الجبهة المقابلة. وفي هذا السياق جاءت أحداث العراق، وكذلك محاولات تفعيل الجبهة السورية لتحقيق تقدم كبير في حلب أو الجنوب. وبالطبع، جاء قرار إعادة إشعال الساحة اللبنانية، بما يفرض معادلات ضاغطة على حزب الله، لإلزامه بتنازلات سياسية رئاسياً وحكومياً مقابل الأمن، ودفعه إلى الحائط بغية منعه من القيام بدور في العراق على شاكلة الدور الذي يلعبه في سوريا.
وسط هذه المناخات، قرعت كل أجراس الإنذار دفعة واحدة في غرف الأمن في لبنان. تلقت مديرية المخابرات في الجيش اللبناني معلومات مصدرها الولايات المتحدة الأميركية، تتحدث بغموض عن وصول مجموعات إلى لبنان للقيام بعمليات ضد مراكز صحية. ثم خرج من يحلل بأن القصد هو ضرب مستشفيات في الضاحية الجنوبية حيث يُعالَج جرحى حزب الله. وترافقت مع معلومات مصدرها عواصم أوروبية وصلت إلى فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي، تتحدث عن انتقال خلايا يحمل عناصرها الجنسية السعودية إلى لبنان للقيام بأعمال إرهابية تستهدف الشيعة خصوصاً. ثم ترافقت مع معلومات أخرى، عن نشاط أمني لافت لمجموعات على صلة بالمعارضة السورية المسلحة في البقاعين الأوسط والغربي. ثم تقارير عن واقع جديد في بلدة عرسال البقاعية أتاح إعادة عناصر جبهة النصرة تنظيم أمورهم وصفوفهم في ضوء الإجراءات الأمنية التي اتخذتها الحكومة اللبنانية.
كل هذه التحذيرات، دلت على أمر واحد: لقد صدر أمر العمليات لإعادة إشغال الساحة اللبنانية. وإن ما يفترض محور المقاومة أنه حققه من نجاحات في سوريا، سيُبدَّد من خلال «كرنفال انتحاري» تضج به بيروت وضواحيها، على حد تعبير مصدر معني بهذه الملفات.
ما حصل أمس، يحتاج إلى بعض الوقت قبل تبيان كامل ملامحه. ليس هناك دلائل أمنية حسية على أعمال كانت على وشك التنفيذ في بيروت، ولا أدلة تقطع بأن عباس إبراهيم كان هدف انتحاريّ ضهر البيدر، ولم يُعثر على أصل لحكاية وثيقة الموساد والصحفية من أصل لبناني. وثمة الكثير من الروايات التي نسجت وفق «سيناريو رواد الفايسبوك». وثمة خيال مخيف عند البعض من الذين تصوروا أحداثاً لم يسبق لها أن حصلت.
لكن الأكيد أن هناك من يدفع لبنان باتجاه استئناف مرحلة التوتر التي سبقت حسم معارك مدن القلمون وبلداته. وثمة إشارات مقلقة من مناطق شمالية، حيث يعمل «متضررون من الخطة الأمنية» على إعادة الفوضى.
كذلك هناك محاولة لفرض بازار سياسي ـــ أمني على حزب الله وفريق حلفائه. وليس بيد أصحاب الحق سوى المزيد من الصبر.