منذ أكثر من 4 أشهر، اتخذت السعودية قراراً ألزمت به دول مجلس التعاون الخليجي بـ«الهجرة المؤقتة» عن لبنان. القرار الذي كان جاهزاً مسبقاً لأسباب سياسية، مُرّر بحجة تصريحات سابقة لوزير الإعلام السابق جورج قرداحي. ومع اقتراب موعد الانتخابات، تتوقع القوى السياسية انتهاء مفاعيل القرار، وأن يحط السفير السعودي وليد البخاري وزملاؤه الخليجيون رحالهم في بيروت خلال أيام.قرار «الهجرة» لم يقفل قنوات الاتصال التي أبقتها السعودية مفتوحة على مصراعيها مع القوات اللبنانية، وبدرجة أقل مع وليد جنبلاط عبر الوزير السابق وائل أبو فاعور، لكنه ترك الساحة السنية خالية من أي «حطة رجل» سعودية، بعدما رفعت الرياض غطاءها عن الرئيس سعد الحريري من دون أن تجد شخصية سنية لها حيثيتها تدعمها لتحقيق مشروعها في مواجهة حزب الله.
المسؤولون السعوديون يرددون أمام شخصيات سنية يلتقونها بأن بلادهم «على مسافة واحدة من الجميع»، لكن كثيرين يشككون في أن تفعل المملكة ما تقوله. على أية حال، أيّامٌ قليلة قبل أن يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود في إمكانيّة أن يهطل المال السعودي على بعض الشخصيات السنية. العارفون ينفون ذلك ويؤكدون أن أداء البخاري سيعرّي من يروّج لدعمٍ سعودي له، خصوصاً أنّ الرياض لن تقبل بعد الآن بأقل من «اللعب على المكشوف». أما المؤشر الأهم فسيتبدّى أثناء الإعلان عن توزيع ما تسميه الرياض «مساعدات إنسانية» بقيمة 38 مليون دولار، عبر اتفاقيات بين السعودية وجهات مانحة من جهة وبين الموزعين في بيروت من جهة أخرى. وسيخصص البخاري جزءاً من المبلغ لبعض المستشفيات ومراكز الرعاية. والرسالة السعودية واضحة بأنها لن تقبل بأن تصل هذه الأموال إلى الدولة أو أي جهة محلية، سواء كانت سياسيّة أو جمعيات أهلية أو حتى دار الفتوى. علماً أن كل الإنفاق لن يكون معلناً كما هي الحال في مناسبات كثيرة.
وعليه، لا مؤشرات توحي بأن المملكة ستُعاود سياستها في «كبّ» المال السياسي. ما كانت تقوم به في عهد الرئيس رفيق الحريري، لن يقبل محمّد بن سلمان أن يفعله، هو الذي لا ينفك عن ترديد أن بلاده أنفقت أكثر من 10 مليارات دولار منذ الـ2005، ذهبت إلى جيوب السياسيين من دون تحقيق أي تقدم على صعيد مشروعها، بل على العكس من ذلك: حزب الله صار أقوى.

مواعيد السنيورة السعودية
في المقابل، يحاول البعض «استدراج عروض» سعودية بالتحريض على حزب الله. هذا تحديداً ما يفعله فؤاد السنيورة الذي زار المملكة منذ أقل من 3 أشهر من دون أن يتمكّن من لقاء أي شخصيّة مرموقة. رغم ذلك، لم ييأس. زار فرنسا وذلك بعدما تلقى وعداً بأن يكون اسمه على جدول لقاءات إحدى الشخصيات السعودية. والوعد نفسه أُعطي أيضاً لأشرف ريفي وفارس سعيد اللذين قصدا باريس للسبب نفسه. لكن جرى ما لم يكن في الحسبان، إذ إنّ اللقاء كان مع شخصية من الدرجة العاشرة: ضابط سعودي ملقّب بـ«أبو تركي». حاول السنيورة خلال اللقاء جرّ السعودية إلى تقديم الدعم لحملته الانتخابية باعتبار أنه يخوض حرباً شرسة ضد حزب الله، إلا أن كلام الضابط السعودي كان عاماً بضرورة إجراء الانتخابات في موعدها وإدخال إصلاحات على النظام اللبناني والدعوة إلى المشاركة في الاستحقاق. هكذا، عاد «دولة الرئيس» خالي الوفاض ومن دون أن يتمكّن من انتزاع أي موقفٍ تشجيعي لخطوته. وهذا تحديداً ما جعله يعدل عن رأيه في الترشح للانتخابات النيابية.
بين الرحلتين، السعودية والفرنسية، زاد إحباط السنيورة. راهن على إمكانية ترشّح نواف سلام للانتخابات النيابية، إلا أن عزوف الأخير (المقرب من المملكة) عن الترشح كان مؤشراً على عدم حماسة الرياض للنزول إلى الملعب الانتخابي، خصوصاً أن سلام أبلغ المقربين منه أن قراره نابع من يقينه بأنّ لا مال سياسياً سيُنفق في لبنان من قبل حلفائه.
بقي الباب السعودي موصداً إلى حين اتصال البخاري بالسنيورة قبل أيّام. وبغض النظر عمّن بادر بالاتصال، استبشر أنصار السنيورة خيراً بأنّ «صندوق طويل العمر» سيُفتح أمامهم. لكن المعلومات بقيت متضاربة حول حقيقة ما حصل. إلا أن الظاهر أن السنيورة لا يزال مصراً على سياسة «كمش اليد» في الإنفاق. فحتى حفل إعلان اللائحة التي يرأسها الوزير السابق خالد قباني كان فقيراً وباهتاً!
أي دعم سعودي سيكون على أساس أنّ الرياض لن تقبل بعد الآن بأقل من «اللعب على المكشوف»


الشح المادي ظهر أيضاً في الاجتماع الأوّل للماكينة الانتخابية التي يرأسها سليم دياب وصالح فروخ أول من أمس، ناهيك عن الدعوة التي وجهها السنيورة إلى العائلات البيروتية. من اعتادوا أن تتم دعوتهم إلى إفطارات رمضانية، فوجئوا بالدعوة إلى سحور رمضاني الأحد المقبل، قبل أن يصل إلى مسامعهم بأن «السحور أوفر». هذا ما يشي بأن ما يسوّق له السنيورة ومن يدورون في فلكه بأن المال السعودي صار في الجيب، غير دقيق.
الصحيح، في المقابل، أن الباحث المقرب من السنيورة، رضوان السيّد، نجح عبر اتصالاته بأمراء سعوديين في تأمين بعض المبالغ المالية للسنيورة وفارس سعيد، فيما رفض رئيس مجلس إدارة مجموعة الحبتور طلب رئيس الحكومة السابق دعم حملته الانتخابية. والصحيح أيضاً أن نقاشاً يجري مع بعض محطات التلفزيون للترويج للوائح يدعمها السنيورة، ويتصرف القائمون على هذه المحطات على أساس أن هناك مالاً سيدفع ولو أنه ليس بالحجم الذي يدفعه مرشحون آخرون. وفي هذا السياق، يروي مطلعون أنّ الرياض ترى في السنيورة «أفضل السيئين». صحيح أنها لا يمكن أن تتكل عليه في تحقيق مشروعها لعدم امتلاكه قاعدة جماهيرية، إلا أنه يمكن أن يُركن إليه في المرحلة الحالية، مستذكرةً «مواقفه البطولية» في حرب تموز. بالتالي، فإن دعمه، ولو بالقليل، قد يكون ممكناً. ويتحدث مؤيدون للسنيورة في بيروت أنه الوحيد القادر على ملء الفراغ الذي أحدثه الحريري على صعيد «قيادة الموقف»، ويتحدثون عن نقاش يجري مع السعودية حول دعم ضروري له ما يساعده على بناء مرجعية تمتلك لاحقاً حق الفيتو على أي قرارات تصدر عن أي سلطة تنتجها الانتخابات.