لا يعرف رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل العمل السياسي إلا من خلال المعارك والهجومات والحرتقات والتصريحات النارية. نادراً ما كان أداؤه سلساً أو خالياً من الاستفزاز. وهو لا يضيره هذا الوصف، لا بل يعتبره مدحاً في إطار تمايزه عن الآخرين، وأنه شاغل الناس والإعلام. في المحصّلة، وبغضّ النظر عما آلت إليه تجربته في السنوات الخمس الماضية، حين تكتب جردة عهد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، لا يمكن إلا الكتابة عن حصيلة عمل باسيل في السنوات الست. وهو في السنة الأخيرة، وإن استنسخ تجربة عون في «النقار» السياسي المستمر، يخوض آخر معاركه السياسية كخط دفاع عن نفسه. وهنا بيت القصيد.
(هيثم الموسوي)

في الظاهر، يطلق رئيس الجمهورية التصريحات ويناقش ويقترح ويعارض، فيما باسيل منكفئ تماماً عن خوض معارك علنية. لكن، في الواقع، يدافع عون عن موقع باسيل في المعادلة، ويدافع باسيل عن نفسه وموقعه كما لم يفعل عون حتى في أكثر معاركه شراسة. ولولا الانتخابات النيابية التي لا يزال المجتمع الدولي مصرّاً على إجرائها، لكانت تغيرت مقاربته في كثير من الملفات، قد يكون التحقيق في انفجار المرفأ أحدها، لأن أي خطوة يقارب فيها الملف من زاوية تجانس موقفه مع موقف الثنائي الشيعي تعني أنه يضع نفسه بنفسه في المصيدة التي ينصبها له خصومه المسيحيون والمجتمع المدني على السواء. فرغم كل الشكوك التي تحوم حول الاستحقاق الانتخابي، إلا أن أحداً لا يغامر في الذهاب بعيداً في إثارة شارعه الحزبي وشارع وسطي قد تصبّ أصواته لمصلحته في لحظة تفلت. ورغم احتياج باسيل في هذه اللحظة إلى عودة مجلس الوزراء إلى الانعقاد، لأهداف التعيينات والصفقات الأخيرة، إلا أن مغامرة التلاقي مع مطلب أمل وحزب الله تبدو عصية عليه ولا يمكنه هضمها، فيما يوجد حمالون كثر على كتفه ينتظرون منه هفوة صغيرة. لذا يظهر تحييد باسيل في الآونة الأخيرة للقوات اللبنانية، والالتفاف على استهدافها كما فعل في خطابه بعد حادثة عين الرمانة، بعدما تيقن من رد الفعل العكسي. وهو يدرك تماماً أن أي مساومة في قضية المرفأ سترتدّ مباشرة عليه في صندوق الاقتراع.
وجهة معارك باسيل تختلف من حين إلى آخر إلا أن الثابت فيها معركته بلا هوادة مع بري


إلا أن مشكلته مع السنة الأخيرة للعهد أكبر من مشكلاته السابقة، فهو في محاولته الدفاع عن نفسه، إن في موقفه من تحقيق المرفأ أو في مطالبته بإسقاط حاكم مصرف لبنان (وهي مطالبة إعلامية حتى الآن أكثر منها حقيقية)، أو في الطعن بقانون الانتخاب، يسعى إلى تحصين نفسه تمهيداً لاستحقاق انتخابي ذي وجهين، نيابي ورئاسي. ويسعى من خلال هجوماته السياسية واتخاذه وراء العهد مواقف من مجلس الوزراء وقانون الانتخاب والتحقيق الجنائي وغيرها، إلى التزود بملفات تصرف تباعاً.
ورغم أن وجهة معارك رئيس التيار الوطني تختلف من حين إلى آخر، إلا أن الثابت فيها معركته مع رئيس مجلس النواب نبيه بري. هي المعركة الأولى والمستمرة من دون هوادة. بخلاف اعتبار بعض الأطراف والقوى السنية أن معركة باسيل وعون استهداف رئاسة الحكومة السنية، لا تبدو سهام باسيل موجهة إلى هذا الفريق. فمشكلته مع رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تختلف عن مشكلته مع الرئيس سعد الحريري. للحريري كتلة نيابية وبعد إقليمي وعربي، وفريق متعدد الآراء حتى في عز التحالف أو الخصومة معه. وهذه ليست حال رئيس الحكومة الذي يعرفه جيداً، ويراهن حتى اللحظة الأخيرة على أنه قادر على أن يصل معه إلى تفاهم على غرار تفاهم الحكومة، مختصراً الطريق بأن موقف رئيس الحكومة المستظل حزب الله، هو الطريق الذي يجمعهما، إلى حين الاستحقاق الرئاسي، لأن كلمة ميقاتي فيه لا علاقة لها بنادي رؤساء الحكومات السابقين ولا حتى بتفاهماته الشمالية.
وحده بري لا يزال بالنسبة إليه العائق الأساسي، فيخوض معه معارك بالجملة والمفرق، فيما الحزب لا يزال وحده قابضاً على جنوح الطرفين نحو الاصطدام الكبير. لا يمكن للتيار أن يستسيغ موقف بري بعد حادثة عين الرمانة، وتجاوبه مع التهدئة، وتناغمه مع القوات في قانون الانتخاب. لكن المفارقة أن تصويب باسيل في قضية المرفأ، وفي حاكمية مصرف لبنان، والمنظومة السياسية، تطال بري من دون الثنائي. وهما ثنائي في النتيجة العملانية، وإن اختلفت مقاربتهما لملفات حساسة. فهو لا يزال يحاول اللعب على حبل التناقضات، وعدم استجرار مشكلة مع حزب الله، الناخب الأكبر في استحقاق رئاسة الجمهورية والحليف الاستراتيجي. وهذه نقطة ضعفه لدى خصومه، ونقطة قوته لدى حلفائه، لأنه في الحالتين يجمع تناقضات في موقفه، من بري وحزب الله في قضية واحدة، فيشن هجوماً على الأول ويحيّد الثاني. إلا أنه في سنته الأخيرة راعياً للعهد وساعياً إلى وراثته، سيكون أمام امتحانات أكثر حدة، فبري لن يتهاون، وخصومه المسيحيون كذلك، والعواصم التي ترعى استحقاق رئاسة الجمهورية لن تهادنه، وسيكون عاجلاً أم آجلاً أمام كشف أوراقه بطريقة أكثر وضوحاً.