حين قرّرت السعودية قبل أسبوع شنّ حربٍ لقلب النظام في لبنان، وجدت «ثغرة» تتيح لها الولوج إلى هدفها: تركّز العلاقات التجارية الخارجية في أسواق مُحدّدة. فافتقار دولةٍ ما إلى التنوّع يرفع منسوب المخاطر التي تصبح أقرب لتكون حصاراً ذاتياً، وهو يكتفي بسردية كلاسيكية عن حاجته إلى الخليج من دون أن يبحث عن أسواق جديدة.لبنان ليس وحده من وقع في هذا الفخ. أستراليا، التي تملك واحداً من أكبر الاقتصادات في العالم، واجهت المشكلة نفسها السنة الماضية مع الصين. ففي مقالةٍ لمدير مركز «بيرث يو أي - آسيا» الأسترالي، جيفري ويلسون، يقول إنّ تأثير العقوبات الصينية على بعض الصادرات إلى أستراليا «كان كبيراً بسبب افتقار العلاقات التجارية والاستثمارية الأسترالية إلى التنوّع... 82 في المئة من الصادرات في عام 2019 كانت موجّهة إلى أسواق المحيطين الهندي والهادئ، وتُمثّل الصين ثلثها. كذلك تُمثّل الولايات المتحدة وأوروبا 60 في المئة من الاستثمارات في استراليا، ومع غرق اقتصادات هذه الدول في الركود نتيجة انتشار كورونا، ستنخفض قدرتها على تصدير رأس المال إلى أستراليا، ما سيؤثّر أيضاً في خلق فرص عمل جديدة في مرحلة التعافي من كورونا».
يتحدّث ويلسون عن أنّه لن يكون بمقدور أستراليا منع هذه الصدمات الاقتصادية، ولكنها قادرة على «اتّخاذ خطوات لإدارة المخاطر بشكل أفضل. ليس المطلوب قطع علاقات أو تنمية علاقة مع شريك ما، بل تنويع العلاقات الاقتصادية وتحسين الديبلوماسية التجارية واستراتيجيات تطوير السوق».
نتائج الانغلاق التجاري تترك ندوباً عميقة في أقوى الاقتصادات، فكيف الحال مع لبنان الذي اختبر علاقاته مع دول الخليج أكثر من مرّة كان آخرها في 23 نيسان الماضي. في ذلك التاريخ، أعلنت السعودية منع المُنتجات الزراعية اللبنانية من دخول أراضيها، أو المرور عبرها إلى دول عربية أخرى بحجّة منع دخول المخدرات التي تصدّر إليها من لبنان. هكذا وجد لبنان نفسه أمام بوابة مُغلقة وأزمة تصريف إنتاج إلى بلد يُصَدِّر إليه سنوياً ما قيمته 29 مليون دولار من الفواكه والخضر.
حالياً، يتكرّر المشهد ذاته، إنما مع ضغوط سعودية وخليجية أقسى، بدأت بسحب السفراء ووقف العلاقات التجارية مع احتمال أن تتطوّر إلى منع التحويلات المالية ووقف الطيران. هنا يصبح مجدياً الحديث عن بناء علاقات تجارية حقيقية تؤمّن المصلحة العليا للبنان. فالموضوع ليس «ترفاً»، أو خياراً يمكن تجاوزه، لأن التنوّع في الأسواق الخارجية يُشكّل درع حماية للبنان في مواجهة مصالح الدول. لذا، يصبح السؤال: لماذا أهملت قوى السلطة تقارير الملحقين الديبلوماسيين في عدد من الدول، وعاملين في وزارة الخارجية والمغتربين، ووزارة الاقتصاد والتجارة عن الفرص في أسواق كالصين والجزائر وروسيا والعراق وسويسرا؟ ولماذا اكتفى لبنان لعقود، بالأسواق الخليجية بشكل أساسي؟
التنوّع في الأسواق الخارجية يُشكّل درع حماية للبنان في مواجهة مصالح الدول


الإجابة لا تنحصر في الضغوط السياسية التي منعت لبنان من استكشاف أسواق جديدة تتطلب تطويراً في بنية الإنتاج وجودته وحتى في شكله. فالمشكلة الأساسية كانت في جوهر «النموذج» الاقتصادي للبنان. هو أصلاً يعتمد على تدفقات رأس المال التي كانت ترفع كلفة الإنتاج وتمنع الاستثمار في الإنتاج. وبطبيعته يتطلب هذا النهج سوء إدارة وإهمال وفساد وسواها وصولاً إلى الانبطاح أمام الخارج. مثلاً، يحصل لبنان بموجب اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي على «كوتا» لتصدير المنتجات الزراعية، لم يستفد منها بشيء. صفر صادرات زراعية لأنّ المنتجات اللبنانية لا تتوافق مع معايير «الاتحاد»، ولم يعمل طيلة سنوات على تطويرها. مشكلة المعايير والجودة برزت مع قطر أخيراً، في ما خصّ النعناع والبقدونس والكزبرة والبقلة والزعتر والملوخية لارتفاع نسبة متبقيات المبيدات فيها. التراخي اللبناني في تطوير صناعاته وامتثاله للمعايير المطلوبة، يكتسب بُعداً آخر في كيفية مقاربته لبعض الاتفاقيات وخضوعه لشروط الدول الأخرى. يُمكن ذكر الإصرار على تنفيذ اتفاقية استيراد الحليب واللبن واللبنة من السعودية على رغم معاناة المزارعين اللبنانيين في تصريف منتجاتهم. والقبول بمخالفة بعض الدول العربية بنود اتفاقية «غافتا» بفرض برامج حماية على منتجاتها، ما أدّى إلى التوقّف عن دخول بعض البضائع اللبنانية إلى تلك الأسواق. وتوقيع مذكرات تعاون مع روسيا لا تملك وزارة الاقتصاد نُسخاً منها...
روسيا هي واحدة من «دول الشرق» التي دائماً ما يتحدّث الرئيس ميشال عون عن ضرورة تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي معها. طلب في السابق من حاكم البنك المركزي رياض سلامة تعزيز التعاون بين القطاع المصرفي اللبناني والروسي، إلا أنّ سلامة رفض ذلك بحجّة «عدم تعريض مصرف لبنان لعقوبات أميركية»، ولم يتجاوب مع عرض روسيا فتح حسابات لها لدى المصارف اللبنانية لتسهيل التجارة بين البلدين. يسأل النائب أمل أبو زيد «هل نُظّم مرّة أسبوع لبناني في روسيا لتسويق المنتجات الزراعية اللبنانية، كما يجري في أوروبا والدول الخليجية؟». الإمكانيات التي تُتيحها السوق الروسية كبيرة، «وهي تفتح المجال للوصول إلى دول أخرى محيطة بها، ولكن لم يجر في أي مرة تطوير العلاقة». ويلفت أبو زيد إلى «تطوّر» يتمثّل في تحضير وزارة الزراعة لمسودة لتصدير منتجات زراعية، سيتم عرضها على المدير العام ووزير الزراعة.
يقول أحد المسؤولين في الحكومة إنّ كلّ «الخيارات التجارية في السابق كانت مبنية على اتفاقيتين. الأولى، هي الشراكة مع الاتحاد الأوروبي التي توجد مطالبات لبنانية بتعديلها، في وقت أنّنا أصلاً لم نستخدم الكوتا المُخصّصة لنا بعد. بعيداً عن زيت الزيتون والعسل والنبيذ والعرق، لم نُفكّر في تنويع خياراتنا. حالياً، تتواصل وزارة الاقتصاد مع الاتحاد الأوروبي لإعادة النظر ببعض بنود الاتفاقية». الاتفاقية الثانية هي اتفاقية التيسير العربية، «حصرنا صادراتنا بالسوق السعودية، ورفضنا أن نتحاور مع سوريا لنحلّ مسألة الشحن. واحدة من النتائج كانت مثلاً، تقدّم التفاح التركي على التفاح اللبناني في مصر، بسبب تكاليف شحنه المرتفعة».
العمل على «سحب الفتيل» وامتصاص الأزمة اللبنانية - السعودية، لا يمنع من أن يُفكّر لبنان جدّياً بعلاقاته التجارية. يعتبر وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش أنّ «دول الخليج مصدر أساسي للبضائع اللبنانية، وهناك سلّة من الاتفاقيات الثنائية مع المملكة جاهزة للتوقيع منذ عام 2018، ولكن هذا شيء، وتطلّع لبنان لتنويع إنتاجه ومصادر التصدير شيء آخر». أهمية الموضوع تكمن في «خلق أسواق جديدة، وامتلاك البلد لمرونة أكبر اقتصادياً».