لم يحدث أن أقفل أبو محمد السيّد باب رزقه كل هذه المدة. حتى في صولات «الحروب» وجولاتها لم يفارق الرجل مكانه. كان كمن يحرس شارع أسعد الأسعد من وحشته. يرابط هناك إلى أن يعود كل شيء إلى حاله. في الجولة الأخيرة، قبل أسبوع، عاد الكلّ إلى «الأسعد»، ولم يعد أبو محمد. هذه المرّة، خسر جولته، بعدما فقد ابنه البكر في الأحداث التي اندلعت ذات خميسٍ أسود. خسارة «ع قدّ العمر يللي قضّاه بالأسعد»، يقول صاحب عربة الخُضر المرابط على زاوية الشارع حيث تجمهر الغاضبون صباح الخميس الماضي.اليوم، بعد أسبوعٍ على الفاجعة، لا يزال باب محل السيّد مقفلاً وعلى جنباته صور لابنه الشهيد وصورته المستجدّة بلباسه الأسود. ربما، بعد أيامٍ، سيعود أبو محمد إلى مكانه، لكنّ الأكيد أنه لن يستعيد أيامه التي كانت ما قبل الخميس. ولا غيره أيضاً، فأحداث ذاك اليوم لم تكن مجرد فاصل سيواصل من بعده أبناء الشياح عيشهم كما كان. ثمة وقت مستقطع من الحزن والغضب سيظل حاضراً حتى «يلحم» الجرح. صحيح أن هذه المنطقة ليست دائمة السكون لجيرتها مع خط تماسٍ لا يهدأ، إلا أن ما يتغيّر اليوم هو فقدانها لثلاثة شبانٍ. ولذلك، يبتلع الأهالي هنا «السلم الأهلي» على مضض بسبب وجود هذا «الدم في الأرض».
العابر في شوارع المنطقة، ولا سيما شارع أسعد الأسعد القريب من خط التماس مع منطقة عين الرمانة ومن الكمين في منطقة الطيونة، سيعرف بأن الناس لم يخرجوا تماماً من جلباب الخميس، إذ لا تزال الأحاديث تدور حول الذي جرى، حتى مع استعادة المنطقة لألفتها وحركة الناس فيها وعودة المحالّ التجارية ومقاهي الطرقات والبسطات.
مع ذلك، لا تشبه حياة الظاهر ما يحمله أبناء الشياح في نفوسهم. يتصرفون اليوم كمن يعضّون على الجرح. يقول علي إن الناس في المنطقة «متل اللي عايشة على فوهة بركان». علي الذي أقفل محله مرغماً في عين الرمانة عام 2019 بعد 19 عاماً من العمل هناك بسبب أحداث تشرين، يجد نفسه اليوم محاطاً بمجموعة من الأسئلة عما حدث مع «الجهة المقابلة». مع ذلك، يميّز علي، كما غيره من أبناء منطقة الشياح بين «جيراننا من المسيحيين وميليشيا القوات اللبنانية». الخيط الفاصل بين الجيران والميليشيا أن الجيران «ربينا معهم»، في حين أن الثانية «طارئة على النسيج». ولذلك، فإن «الغضب فقط على الميليشيا».
يسترجع علي سيرة منطقتين «ما يجمعهما أكثر مما يفصلهما». يؤكد أن كثيرين من شباب الشياح «كبروا» في عين الرمانة، سواء «في مدارسها أو في محالّها أو شوارعها»، ولذلك كان الرابط «أصعب من أن تفكّكه بعض النكوزات». إلى ذلك، ويضيف سبباً آخر لـ«الوصل»، وهو «أننا تربينا في الشياح على صورة الإمام الصدر في الكنيسة». ولأنه كذلك، يعرف علي أن يوماً ما سيلحم ما انقطع. وهذا الـ«يوماً ما» مرهون ببرودة الجرح الذي ساق ثلاثة شبانٍ من المنطقة إلى الموت.
يبتلع الأهالي هنا «السلم الأهلي» على مضض بسبب وجود «الدم على الأرض»


يحرص أبناء الشياح في أحاديثهم عن العلاقة مع جيرانهم في عين الرمانة لكونهم هم «أمّ الصبي»، لذلك تجدهم في كل حين يذكرون بأنهم السبّاقون إلى العودة إلى عين الرمانة. هذا ما يؤكده تامر. فهو إن كان اليوم قد انقطع عن جيرانه فلأن «الدم حامي». أما عندما يبرد ذلك الدم، فـ«لا مفرّ من العودة إلى هناك».
كثر يسوقون الأجوبة نفسها عن العلاقة مع الجيران، ومنهم «أبو علي»، صاحب البسطة «مطرح ما تجمعوا الشباب نهار الخميس». عاد الستيني إلى مكانه، وهو مدرك تماماً أن زبائنه «من أهلنا في عين الرمانة» سيرجعون إلى بسطته التي «كانوا يشترون منها أكثر من جماعتنا». لكن، مع ذلك، ثمة يقين لدى الرجل بأن هناك «من يجب أن يحاسب عما جرى وتحديداً من حملوا السلاح على التظاهرة السلمية. يرفض الرجل أن يصدّق أن ما جرى هو حادث قضاء وقدر، ويفضّل أن يصدّق ابنته التي عاشت رعب القنّاصين في «بناية الموسوي» في منطقة الطيونة.
يستذكر «أبو علي» الذي يعيش في الشياح منذ عام 1969 كيف تغيّر كل شيء في المنطقة، فيما استقرّ «تاريخ القوات». فما بين الـ69 واليوم، تغيّر شكل الشارع، حيث استُبدلت حدائق الصنوبر والمزروعات بالبيوت التي بدأت تعلو طوابقها شيئاً فشيئاً «حتى صارت بنايات». مع ذلك، «لم تتغيّر جماعة القوات يللي ما رح يعرفوا ينضفوا تاريخهم». لكنه يفضّل أن يحسبهم بـ«المفرّق»، لأن «كل من يسكن عين الرمانة هم أهلنا».
يعود المختار أسعد كنج سنواتٍ طويلة إلى الوراء ليؤكد حكاية «النسيج الواحد». قبل وجود خطوط التماس «كانت الشياح وعين الرمانة بلدية واحدة، ولم تفترق البلدتان إلا في العهد الشمعوني عندما ارتُئي الفصل إلى بلديتين بسبب المطالبة بالمداورة بين المسلمين والمسيحيين». مع ذلك، لم يؤثر هذا الفصل على علاقات الناس في المنطقتين وعلى التعاون البلدي، كما أن «تلامذة الشياح والمنطقة المجاورة كانوا يدرسون في مدارس عين الرمانة وفرن الشباك قبل أن تقوم مدارس النهضة الوطنية». وحتى اليوم، لا يزال هذا الخليط شائعاً، إذ يشير كنج إلى أن «معظم الطلاب الذين يدرسون في مدارس عين الرمانة وفرن الشباك عادوا إلى مدارسهم»، وإن كان يعرف أن العلاقة ستظل مقصورة على المدارس إلى حين لأن «الناس قلوبهم مكهربة من الواقعين الأمني والمعيشي».
ثمّة طرف لم يبتلع بعد ما جرى، وهو الجزء الغالب من المحزّبين الذين لم يجدوا تفسيرات لما حدث. ينطلق هؤلاء من جولاتٍ سابقة مرّت على المنطقتين، إلا أنها «لم تخرج من إطار التراشق بالكلام وبعض الطلقات»، ثم أتى الخميس «الذي لن يكون بعده كما قبله»، على ما يقول أحد الحركيين الذي كان من بين المشاركين في التظاهرة ونجا «بأعجوبة»، على ما يقول. وإذ يعتبر، هو الآخر، أن «أهل عين الرمانة أهلنا وجيراننا»، إلا أنه ليس لديه الاستعداد اليوم «للدخول إلى المنطقة بما أنني شخص غير مرغوب بي هناك، كما لا أرغب بدخول أحد منهم إلى هنا، فيما الدم لم يجفّ بعد». ولذلك، يعرف أن «أي تحرك لن يحدث اليوم للصلح كما في المرات السابقة بانتظار ما سيجري من فوق».