لبنان 1981 - 1982
خطّط العدو لاجتياح لبنان قبل وقتٍ من إطلاقه الحملة العسكرية في حزيران 1982. لم يكن الأمر مجرّد دراساتٍ وخططٍ عسكرية. بل كانت هناك حاجة لخلق بيئة ملائمة لعملية كبيرة تبيّن لاحقاً أن أرييل شاروون يريدها أن تصل إلى بيروت.

في كتابه المثير «انهض واقتل أولاً، التاريخ السرّي لعمليّات الاغتيال الإسرائيلية»، يقدّم الصّحفي الإسرائيلي رونين بيرغمان، المعطيات والوقائع المستندة إلى وثائق خاصة بأجهزة متعدّدة للاستخبارات الإسرائيلية، والتي تقود إلى أعمال تخريبٍ دموية جرت في لبنان في الفترة التي سبقت الاجتياح. والتي تبيّن أن العدو يقف خلفها. وهي جزء من استراتيجيّة كانت تتطلّب توفير الذّريعة المناسبة للهجوم.
كان رافائيل إيتان مستشاراً لرئيس الوزراء لشؤون مكافحة الإرهاب ورئيساً لجهاز «لاكام»، وهو عبارة عن وحدةٍ أمنية تعمل على التجسّس، وتخضع لسلطة وزير الدفاع وتستخدم التكنولوجيا العسكرية. استعان شارون بـ«رفيق السلاح» ايتان في مشروعه لغزو لبنان. وينقل بيرغمان عن القائد السابق للجبهة الشمالية ديفيد اغمون أن شارون طلب منهم الذهاب بعيداً في الخطط وصولاً إلى احتلال كلّ لبنان وحتى أجزاءً من سوريا.
وبحسب بيرغمان فإن شارون كان يعبّر عن استيائه من المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة مباشرةً وبطرقٍ أخرى مع منظمة التحرير في لبنان. وكان يعتقد بأنّ كل تأخير للعملية العسكرية يمنح منظمة التحرير فرصة تثبيت نفوذها وتعزيزه في لبنان. لذلك، استدعى الوحدات المعنيّة بالعمل الاستخباراتي لوضع خطّة تسرّع العملية التمهيدية. يومها تقرر تفعيل نشاطات وحدة سريّة بقيادة مائير داغان الذي صار لاحقاً رئيساً للموساد. وطلب إليها العمل من داخل غرفة عمليّات ومسرح المنطقة الشمالية، وأطلق عليها اسم «وحدة جنوب لبنان». وينقل بيرغمان عن افرام سنيه قوله أن «هدف الوحدة زرع الفوضى في مناطق نفوذ الفلسطينيين في صور وصيدا وبيروت لإيجاد الأرضية القويّة التي تبرّر لإسرائيل غزو لبنان». وعمد شارون في حينه إلى تكليف مساعده الضابط ايتان ليكون مندوبه القيادي الخاص في قيادة المنطقة الشمالية.
في كانون الأول 1981 تم تفجير نحو 18 سيارة ودرّاجة هوائية او نارية وحتى حمير حُمّلت بالمتفجرات، وقعت الانفجارات بالقرب من مقرّات تابعةٍ لفصائل منظمّة التحرير، وداخل المخيّمات الفلسطينية، موقعة مئات القتلى والجرحى. وسبقت ذلك، في منتصف أيلول 1981، تفجيرات عبر سيارات مفخّخة في أحياء يسيطر عليها رجال منظمة التحرير في بيروت ومدنٍ لبنانية أخرى. بينها سيارة انفجرت في الأول من تشرين الأول 1981 في منطقة الفاكهاني (الطريق الجديدة في بيروت) ما أدى إلى استشهاد 83 شخصاً وجرح 300 آخرين، من بينهم عددٌ من النساء كن يعملن في مصنع للملابس تملكه منظمة التحرير الفلسطينية، كما انفجرت سيارة أخرى في صيدا قرب أحد مقرّات منظمة التحرير ما أدى إلى مقتل 23 شخصاً.
يكشف بيرغمان، في روايته عن تلك الفترة: «فجأة ظهرت في لبنان منظمة جديدة حملت اسم «جبهة تحرير لبنان من الغرباء». وقد تبنّت في بيانات منفصلة كلّ عمليات التّفجير التي كانت تحصل حينها». ويضيف: «كانت العبوات الناسفة توضّب في أكياس مسحوق الغسيل «اريال» حتى إذا ما تم توقيف الشحنة على حواجز الطرقات كان يبدو للناظر أنها شحنة بريئة لمسحوق الغسيل، وكان الإسرائيليون يكلّفون في بعض الأحيان نساءً عميلات قيادة السيارات المحملة بالمتفجرات لإبعاد الشبهة. ويتم إعداد السيارات المفخخة في مقر العمليات الخاصة للجيش الإسرائيلي». ويشرح أنه حصل في ذلك الوقت، أنه تم للمرة الأولى استخدام الجيل الأول من الطائرات من دون طيار التي كانت مهمتها أن تطير فوق الهدف وترسل شعاعاً نحو العبوة المزروعة ما يؤدي إلى انفجارها. وكان أحد العملاء يتولى قيادة السيارة المفخّخة إلى الهدف المحدّد تحت المراقبة الجوية أو الأرضية (عبر عملاء ميدانيّين) وعندما يركن السيارة ويتركها ويحدّد المراقبون اللّحظة المناسبة التي ينتظرونها يتمّ الضغط على الزر لتنفجر العبوة (أو ترسل الأشعة من الجو نحو العبوة المزروعة).
بحسب ما جمعه بيرغمان، فإن العدو كان يعمل على تأليب الناس ضد الفلسطينيين من جهة. لكن شارون نفسه كان منشغلاً من جهته بدفع ياسر عرفات إلى الردّ بعملية انتقامية ضد إسرائيل. وهي الذريعة التي كان يحتاجها لإطلاق عدوانه على لبنان، أو أنّه في حال لجأ الفلسطينيون إلى توجيه ضربات للميليشات المسيحية الحليفة لإسرائيل مثل الكتائب، فإن اسرائيل كانت ستقرر إرسال تعزيزات للدفاع عن الحلفاء في لبنان. وأن يجري ذلك تحت عنوان «حماية المسيحيين».
ووفق الكتاب نفسه، فقد انتقل العمل إلى مستوى جديد، عندما باشرت «جبهة تحرير لبنان من الغرباء» إطلاق هجماتٍ على مواقع تابعة للجيش السوري في لبنان. ومن أجل التّعمية على ما يحصل، أعلنت هذه الجبهة عن عملياتٍ شنّتها ضد الجيش الاسرائيلي، لكنّها عمليّات لم تقع من أساسه.
والأهم هو ما نقله بيرغمان عن مائير داغان قوله: «لم يكن لنا ابداً أيّة علاقاتٍ بنشاطات ضد قواتنا، ولكن هذه الجبهة أعلنت مسؤوليتها عن هكذا نشاطات لتعطي مصداقيةٍ لعملها ضد كلّ القوات الغريبة في لبنان». وينقل رونين بيرغمان عن ضابط عمل مع الموساد: «قمنا بأعمال رهيبة، وأنا دعمت وشاركت في عمليات اغتيال عدة نفذتها إسرائيل ولكن نحن هنا نتكلم عن عمليات قتل جماعيّ من أجل القتل فقط وذلك لزرع الفوضى. فمنذ متى بتنا نرسل الحمير المحمّلة بالمتفجرات لتفجيرها في الأسواق المكتظة؟».
كما ينقل بيرغمان عن داغان قوله «أنا على استعداد لذرف الكثير من الدموع على قبر لبنانيّ قُتل بسبب مهمّة كلفناه بها طالما أن ذلك يمنع تهديد حياة أي يهوديّ بالخطر». ويضيف: «يمكن أن تعطي العبوة لشخصٍ وتقول له فجّرها قرب أحد مقرّات منظمة التحرير، ولكن لهذا الشخص حساباته الشخصية أيضاً، وهو يحمل عبوة الآن، وقد يقرّر أن يفجر العبوة في مكان آخر، ماذا علينا أن نفعل؟».