يستمر ديوان المحاسبة في إحداث خروقات محدودة في قاعدة الإفلات من العقاب التي اعتادها المسؤولون. جديده إصدار حكم بالغرامة بحق وزيري الاشغال الحالي والسابق، إضافة إلى موظفين في الطيران المدني، لمخالفتهم القانون في التلزيمات المتعلقة بمنشآت النفط في المطار. ورغم أن الغرامات التي فُرضت هي الحد الأقصى المتاح في القانون، إلا أنها لا تُشكّل رادعاً فعلياً لمن يستسهلون هدر المال العام، وهو ما يفترض أن يعالجه مجلس النواب من خلال تعديل القانون وتعديل قيمة الغرامات. لكن مع ذلك، فإن القرار الأخير، برمزيته، بدا أقرب إلى مضبطة اتهام بحق كل الوزراء الذين لا يعطون وزناً للقانون أو لرأي الهيئات الرقابية
خطوة جديدة خطاها ديوان المحاسبة على طريق تثبيت دوره الرقابي والعقابي في وجه كل من يخلّ بواجباته، إن كان موظفاً أو وزيراً. وبعدما سبق أن طال حكم بالغرامة وزيراً سابقاً (وزير الأشغال السابق محمد الصفدي) بسبب هدره المال العام، ها هو القرار الجديد يطال، للمرة الأولى، وزيراً حالياً، فارضاً عليه أقصى عقوبة ممكنة، بسبب تقصيره في القيام بواجباته. فوزير الأشغال ميشال نجار متّهم بمخالفات عديدة تتعلّق بتمديد عقد استثمار وتشغيل المنشآت المخصصة لتزويد الطائرات بالوقود في مطار بيروت. لكن العقوبة لم تقتصر على نجّار، بل شملت أيضاً وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس وكلاً من المدير العام للطيران المدني فادي الحسن، والمدير العام للطيران المدني السابق بالتكليف محمد شهاب الدين، ورئيس دائرة صيانة المنشآت بالتكليف رامي فواز، الذين رأت الغرفة التي يرأسها القاضي عبد الرضا ناصر وتضم القاضيين محمد الحاج وجوزيف الكسرواني، أنهم جميعاً متورطون في هدر المال العام.
إضافة إلى العقوبات المالية بحق هؤلاء، نص القرار الذي أصدره رئيس الديوان القاضي محمد بدران في 19 تموز الجاري على «الطلب من وزارة الأشغال العودة عن قرار تمديد عقد الاستثمار وإلغاء المفاعيل القانونية لهذا التمديد، بسبب تعارضه مع المبادئ والأحكام القانونية المرعية». كما طلب منها إجراء مزايدة عمومية جديدة في أقرب فرصة ممكنة لتلزيم استثمار وتشغيل المنشآت.
القضية عمرها سنوات، لكنها تفاعلت بعد انفجار 4 آب. حينها كان الهلع من تكراره في منشآت أخرى يكاد يضاهي الرعب الذي خلّفه الانفجار نفسه. سُلّط الضوء تحديداً على مطار بيروت، بعدما تناقل بعض وسائل الإعلام أخباراً عن تسرب نفطي حدث في المطار. ورغم نفي رئيس المطار فادي الحسن ذلك، إلا أنه أعيد استحضار ملف تأهيل المنشآت النفطية في المطار، بوصفه أمراً مُلّحاً وطارئاً. وحجّة الطوارئ هذه كانت المُبرّر لكثير من التجاوزات التي تُوّجت بتمديد عقد الاستثمار، خلافاً للرأي الاستشاري الصادر عن ديوان المحاسبة في الأول من أيلول 2020.
نجّار مطالب بـ 12 راتباً وبدفع قيمة الأشغال المنفذة خلافاً للقانون من جيبه

فبعد دراسة أعدتها شركة «إلف» المسؤولة عن أعمال الصيانة، وأشرفت عليها شركة Air Total الفرنسية، تتعلق بالأعمال التي تحتاج إليها التجهيزات والمنشآت، تبين أن كلفة الأشغال المطلوبة تُقدّر بـ5.629 ملايين دولار. وبعد أكثر سنة على تقديم هذه الدراسة إلى مديرية الطيران المدني (11 آذار 2019)، أفتت الأخيرة بأهمية تنفيذ الأشغال، تفادياً لاحتمال وقوع حوادث قد تؤثر على سلامة الطيران أو السلامة العامة نتيجة الحال التي وصلت إليها المنشآت التي بنيت منذ أكثر من 25 عاماً، علماً بأن المتعهد كان راسل وزارة الأشغال أكثر من مرّة شاكياً عدم الرد على كتاب المجموعة، ضمن المهلة المنصوص عليها بالعقد، رافعاً المسؤولية عن نفسه. كما أبدت اهتماماً، في حال قرّرت وزارة الأشغال اتباع الآلية المنصوص عليها في المادة 12 من العقد الموقع مع الدولة، بتنفيذ الأعمال المطلوبة وفقها، أي استبدال عملية دفع بدل الأعمال بتمديد مدة الاستثمار بالنسبة والتناسب بين التكاليف المتعلقة بالأعمال وبين بدل الاستثمار السنوي الثابت (مليون و208 آلاف دولار). وربطاً بكلفة الاستثمار، تقرر أن تكون مدة التمديد 4 سنوات وثمانية أشهر، تبدأ من 27 تشرين الثاني 2001، تاريخ نهاية العقد الساري المفعول، علماً بأن العقد جرى تمديده بقرار من مجلس الوزراء، بعدما كان يُفترض أن ينتهي في 21 تموز 2021.
لكن رأي الديوان كان واضحاً في رفض هذه الصيغة، لأسباب عديدة منها:
- لا يمكن تمديد مدة استثمار أملاك الدولة الخاصة لأكثر من أربع سنوات.
- يفترض أن يتم تنفيذ الأشغال المطلوبة عبر إجراء مناقصة عمومية بهدف الحصول على أفضل الأسعار.
- تكليف مستثمر ومشغّل المنشآت بتنفيذ الاشغال مقابل تمديد عقد الاستثمار بالنسبة والتناسب يخالف مبدأ شيوع الواردات ومبدأ تخصيص النفقات وقاعدة عدم عقد نفقة من دون توافر اعتماد لها.
- إن قيام المستثمر بوضع دراسة تحدد الأعمال المطلوبة وتكليفه بتنفيذ هذه الاعمال يؤلف تعارضاً للمصالح، وهو أمر غير جائز.
بعد مرور يومين على القرار، عقد نجّار مؤتمراً صحافياً انتقد فيه موقف الديوان، وأوضح أنه سبق أن أرسل كتاباً مفصلاً إلى وزير المالية، أسوة بما فعله فنيانوس أيضاً، طالباً اعتمادات بقيمة 5.6 ملايين دولار لإجراء صيانة المنشآت في المطار، ولكن لمّا لم يأته أي رد بسبب الظروف التي يمر بها لبنان، ومنها كورونا وإقفال المطار، ولم تأت الاعتمادات، وربطاً بما حصل في المرفأ في 4 آب، وصله كتابان من كل من شماس والحسن يؤكدان ضرورة تحديث منشآت المطار، استناداً إلى المادة 12 من عقد (إجراء الأشغال مقابل تمديد العقد). ورغم إحالة نجار الكتابين إلى ديوان المحاسبة لتبيان مدى قانونية الإجراء المقترح، إلا أنه لم يأخذ برأي الديوان، بل ذهب إلى الحصول على موافقة استثنائية للسير باقتراح الوزارة التمديد للشركة مقابل الأعمال.
بناءً على ذلك، أصدر الديوان قراراً مؤقتاً في 24 كانون الأول الماضي، في إطار الرقابة القضائية على الموظّفين وطلب من كل المعنيين الإدلاء بدفاعهم عن المخالفات المنسوبة إليهم. فبالنسبة إلى نجار، كانت المخالفات هي:
- عقد نفقة من دون توافر الاعتمادات اللازمة، ومن دون الاستحصال على تأشير مراقب عقد النفقات ومن دون عرض المعاملة على ديوان المحاسبة.
- تأجير أملاك الدولة من دون إجراء مزايدة عمومية، تلزيم صفقة أشغال بالتراضي، من دون دفتر شروط وبناءً على دراسة وضعها المتعهد نفسه.
- إجراء مقاصة ما بين النفقات المترتبة على الأشغال والواردات المرتقب تحصيلها، خلافاً لمبدأ شمول الموازنة.

الديوان يوقف العمل بقرار تمديد عقد استثمار منشآت المطار


أما بالنسبة إلى فنيانوس، فاتُّهم بعدم اتخاذ أي قرار بشأن كيفية تمويل الأشغال المطلوبة في الفترة الفاصلة بين تاريخ تسجيل المستثمر لكتابه في 14/3/2019 وتاريخ تركه لمنصبه يوم 21/1/2020، ما أدى إلى «إضعاف موقف الإدارة وجعل الأشغال المطلوبة تبدو أكثر إلحاحاً، كما أدى إلى إلحاق ضرر كبير بالأموال العمومية، خاصة أنه كان يتعيّن عليه، على الأقل، أن يطلب عملية وضع دفاتر الشروط اللازمة لإطلاق المناقصة».
كما اتهم الديوان كلاً من الحسن وشهاب الدين وفواز بالإهمال والمماطلة في القيام بواجباتهم، ما تسبّب في إلحاق الضرر بالأموال العمومية.
بالنتيجة، قرّر ديوان المحاسبة «بصورة نهائية وفي نطاق الرقابة القضائية على الموظفين»:
أولاً، فرض الغرامات التالية على وزير الأشغال ميشال نجار:
- الحد الأقصى من الغرامة المنصوص عليها في المادة 60 من قانون تنظيم ديوان المحاسبة.
- الحد الأقصى من الغرامة المنصوص عليها في المادة 61 من تنظيم الديوان (راتب 12 شهراً).
- إصدار سند تحصيل بحقه بمبلغ يعادل القيمة الفعلية للأشغال المنفذة من دون سند قانوني من أصل قيمة الأشغال الأساسية البالغة 5.4 ملايين دولار (طلب من المدير العام للطيران المدني تشكيل لجنة فنية تكون مهمتها تسلم الأشغال التي قام المستثمر بتنفيذها وتقدير قيمتها الفعلية).
ثانياً: فرض الغرامات التالية بحق وزير الأشغال السابق يوسف فنيانوس:
- الحد الأقصى للغرامة المنصوص عليها في المادة 60 من قانون تنظيم الديوان.
- مبلغ يعادل راتبه عن ستة أشهر بتاريخ ارتكابه المخالفة سنداً للمادة 61 من القانون نفسه.
ثالثاً: تغريم كل من فادي الحسن ومحمد شهاب الدين ورامي فواز بالحد الأقصى للغرامة وفق المادة 60 من قانون الديوان، إضافة إلى تغريم الحسن بمبلغ يُعادل ستة أشهر من راتبه بتاريخ ارتكابه المخالفة وتغريم فواز بمبلغ يعادل راتب شهرين.
رابعاً: الطلب من وزارة الأشغال:
- وقف العمل بقرار تمديد عقد الاستثمار.
- وقف الأشغال التي يقوم بها المستثمر والمتعلقة بالتجهيزات والبنية التحتية للمنشآت المخصصة لتزويد الطائرات بالوقود.
- إجراء مزايدة عمومية جديدة لتلزيم استثمار وتشغيل المنشآت المخصصة لتزويد الطائرات بالوقود.
- إجراء مناقصة عمومية لاستكمال الأشغال المطلوبة.



القاضي علي إبراهيم يخالف القانون
لم تكن وزارة الأشغال وحدها من خالف القانون في قضية منشآت المطار، بل كان لافتاً أن النيابة العامة المالية كانت أحد أطراف المخالفة. وهو ما أكده ديوان المحاسبة بشكل لا لبس فيه.
ففي 5/9/2020 أصدر النائب العام المالي علي إبراهيم قراراً قضى بتكليف شركة «إلف» التي يملكها مارون شماس، المباشرة فوراً ومن دون أي مهلة بأعمال إعادة تأهيل منشآت النفط في المطار، على أن يتم لاحقاً إجراء تسوية مالية. وبذلك، تعمّد إبراهيم القيام بمخالفتين: الحلول محل السلطة التنفيذية، وعدم الاكتراث بتنبيه ديوان المحاسبة لوزارة الأشغال إلى عواقب عدم التقيد بالقوانين، وإصداره قراراً مخالفاً لتوجيهات الديوان من دون الأخذ برأيه.
ولذلك، كان الديوان واضحاً في تضمين قراره إشارة إلى أن تعليمات النيابة العامة المالية «صدرت عن مرجع غير صالح ولا تتفق مع مبدأ فصل السلطات». إذ أكد أنه «لا يحق للنيابة العامة المالية إصدار التعليمات أو الأوامر التنفيذية، ولا سيما تلك التي ترتّب إنفاقاً عاماً في موازنة وزارة الأشغال، والتي يبقى إصدارها مناطاً حصراً بالسلطة التنفيذية المختصة في الوزارة المذكورة والتي يحق لها وحدها عقد النفقة، عملاً بأحكام المادة 56 من قانون المحاسبة العمومية».


«لا قيمة قانونية للموافقة الاستثنائية»
في معرض دفاعه عن نفسه، كان وزير الأشغال ميشال نجار قد أوضح أنه أسند قراره بتمديد عقد الاستثمار إلى الموافقة الاستثنائية الصادرة عن رئيسي الجمهورية والحكومة في 3/9/2020. لكن كان لافتاً رفض الديوان الاعتداد بالموافقة الاستثنائية «نظراً إلى أن لا قيمة قانونية لها في غياب أي نص قانوني يرعى شروط إعطاء الموافقة الاستثنائية ويوضح مفاعيلها القانونية». كما أوضح الديوان أنه «حتى لو سلمنا جدلاً بقانونية الموافقة الاستثنائية، إلا أنه لا يمكن القبول بقرار يسمح بمخالفة المبادئ العامة والقوانين المرعية الإجراء، لا سيما مبدأ الشمول والشيوع والقرار رقم 275 تاريخ 25/6/1926 (عدم جواز تلزيم المرفق العام لأكثر من 4 سنوات) حتى وإن صدر عن مجلس الوزراء في حكومة مكتملة الصلاحية».