بين اعتذار الرئيس سعد الحريري والعريضة النيابية التي وقّع عليها رئيس تيار المستقبل وأكثرية كتلته النيابية، تحولت المشكلة التي كانت قائمة حول تكليفه وتعثر تأليف الحكومة الى مشكلة بينه وبين القوى المسيحية. فمن يتحمل المسؤولية عن التدهور في العلاقات بين الحريري وبينها، وكيف يمكن تصحيحها حتى لا يصبح «الانتقام» السياسي طائفياً؟مع تكليف الحريري - بعد استقالة الرئيس حسان دياب - حَرصَ وحزبُ الله على استبعاد اي توتر سنّي - شيعي من الشارع. وهو الأمر ذاته الذي كان في صلب الاتصالات التي جرت إبان انتفاضة 17 تشرين. نجح الطرفان في سحب أي توتر يمكن أن يخلق حساسيات على الأرض، حتى بعدما تفاقم الوضع ميدانياً من خلال قطع الطرق، ولا سيما طريق الجنوب. ورغم التكليف المنقوص، والتشكيل المتعذر، أبعد الطرفان، من خلال لقاءات مشتركة، الخلافات عن طريقهما، في لقاءات ثنائية واتصالات موسعة شملت الرئيس نبيه بري. لا يترك كلام الحريري الاخير حول حزب الله أثراً يذكر، لأن الجميع يعرف حدود الكلام والغاية السياسية والانتخابية منه.
لكن في لحظة مفصلية كاعتذار الحريري، تحوّلت المشكلة الى انفصام تام بين الحريري والقوى المسيحية، ولا سيما انها سبقت توقيع العريضة النيابية بشأن ملاحقة الوزراء المشتبه فيهم بانفجار المرفأ امام المجلس الاعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. فالتوقيع عليها، بعدما وقف كل حلفائه السابقين معه يوم تشكيل المحكمة الدولية في اغتيال والده، يناقض مطالبته في المقابل بتحقيق دولي، لكنه كشف عن رد فعل «عصبي» بالمعنى الحقيقي. ففضلاً عن الخشية من أن يطاله الادعاء، بشخصه، في التحقيق بانفجار المرفأ، تصرف الحريري وكأنه لم يبتلع الهزيمة التي طالته امام العهد وباسيل، رغم كل الاحاطة الدولية به، المنقوصة سعودياً، فاستعاد علاقته مع الثنائي الشيعي انطلاقاً من العريضة، وبدا الحرص المتبادل بينه وبين بري مبرراً بعدم الخروج عن علاقتهما منذ 14 شباط 2005. الا انه بخطوته هذه أصاب علاقته بالقوى المسيحية إصابةً مباشرة، خصوصاً في ظل غليان مسيحي حيال عدم رفع الحصانات، وكرّس تحويل الخلاف «طائفياً» بتكتل سني وشيعي مدافع عن العريضة في وجه تكتل القوى المسيحية الرافضة للعريضة.
منذ التسوية الرئاسية، التي أسهم فيها نادر الحريري، أبعد الثنائي الحريري القوى المسيحية الحليفة لصالح التفاهم مع جبران باسيل. ألغى رئيس تيار المستقبل كل قوى 14 آذار من قاموسه، ولم يعد يستمع، حتى قبل التفاهم الباريسي، إلى نصائح أيّ منهم، لا إلى الشخصيات المستقلة التي كانت عماد قوى 14 آذار، كالنائبين السابقين فارس سعيد والراحل سمير فرنجية، ولا الى الاحزاب كالقوات اللبنانية والكتائب. أسهم بعض مستشاري الحريري وإعلامييه في تزكية هذا التوجه. رغم أن القاعدة المستقبلية لا تناصب هذه الأطراف العداء، بل العكس تماماً. صار كل من ينتقد الحريري خائناً، وكل من يتحدث عن باسيل وعون والتسوية على «اللائحة السوداء». ورغم أن الحريري كشخص يؤكد عارفوه أنه أبعد ما يكون عن النعرات الطائفية والمذهبية، إلا أن هناك في محيطه مَن كان يؤكد له دوماً ضرورة الابتعاد عن القوى المسيحية، لصالح التفاهم مع الثنائي الشيعي.
مضاعفة الاستثمار السياسي والطائفي في العريضة ومعها وضدها، جريمة توازي جريمة المرفأ


في المقلب الآخر، لم تلتقط القوى المسيحية الفرصة حين وقع الخلاف، من أجل تصحيح الوضع مع الحريري. فالتيار الوطني الحر الذي كانت تجمعه خصومة مطلقة مع آل الحريري وتيار المستقبل، استفاد من التسوية مع شريك سنيّ لتعزيز أوراقه الداخلية والخارجية. فأرسى التسوية على قاعدة المصالح، خصوصاً تلك التي ربطت باسيل ونادر، واستبعدا معاً كل الآخرين، ولا سيما القوى المسيحية. وما ان تلاشت المصالح مع انهيار الوضع المالي والنقدي وفورة التظاهرات، حتى تخلى سعد الحريري وجبران باسيل أحدهما عن الآخر، وتحولت التسوية عبئاً على كليهما، وأنتجت مع استقالة الحريري ومن ثم تكليف حسان دياب واستقالته، ردود فعل متبادلة أرخت بثقلها على الوضع الداخلي برمته، لا عليهما فحسب، علماً بأن التيار لم يستطع أن يخرق القاعدة المستقبلية، ولم يقدر الحريري أن يُدخل التيار الى قاعدته. ما زاد من حدة الانعكاس السلبي هو أن التيار غامر كثيراً بالذهاب في الخلاف بعيداً، رغم ما كان يجمعه بالحريري. فالرهان على أن السعودية لا تريد الحريري، لا يعني في المقابل أن الأخير لم يدفع أثماناً باهظة نتيجة خياره في التسوية، أو أن باسيل قادر على الإتيان بزعامة سنية رديفة. وهذا جوهر الخطأ الحالي في مقاربة باسيل للجو السنّي، بعدما بالغ في استفزازه، والاستثمار في «فوزه» الأخير على الحريري.
القوات اللبنانية أخطأت كما الحريري، و«الرؤية الاستراتيجية» الموحدة بينهما لم تنعكس في الملفات الداخلية. كان الحريري يرى منذ لحظة الخلاف حول قانون اللقاء الارثوذوكسي (للانتخابات النيابية) أن القوات تحاول اختيار القانون الذي يمكّنها من الفوز بحصة نيابية من دون التحالف مع المستقبل، وهو حين قرر تشكيل الحكومة ظهر كأنه يحاول المستحيل ليؤمن لها الحصص الأنسب والسيادية، لكن القوات رأت أنه لا يقوم إلا بما تقتضيه مصلحة باسيل. وهي أخطأت في «التقليل» من حجمها السياسي، فبدت متساهلة في القبول بدخول الحكومة الاولى للعهد بأي ثمن، فارتضت تباعاً بكل ما عرض عليها، ولو قلّ الحجم عمّا كانت تطمح اليه، ما جعلها عرضة أكثر للتصويب عليها من جانب فريق الحريري. والقوات تعتب على الحريري لتوجيه السهام مرة تلو مرة نحوها، خصوصاً في موضوع رئاسة الجمهورية والتسوية مع عون، وكان الحريري واضحاً في احتفال 14 شباط عام 2016 حين توجه لجعجع بالقول عن المصالحة بينه وبين الرئيس ميشال عون: «يا ليتها حصلت قبل زمن بعيد، كم كانت وفّرت على المسيحيين وعلى لبنان». في المقابل، لم تقم القوات بأي مبادرة فعلية لتخفيف الاحتقان، والتنازل فعلياً في الشهور الاخيرة لصالح إعادة العلاقة مع الحريري الى سابق عهدها، بما في ذلك قبولها المشاركة في الحكومة، ما كان سهّل ولادتها. هناك من يتذرع بموقف السعودية خلف القوات، لكن الامر يحمل مبالغة في اتجاهين: تبالغ القوات في مسايرة الرياض، ويبالغ الآخرون في اعتبار أخطائها منسوبة حصراً للسعودية، لأن القوات لها حساباتها الانتخابية، إذ تعتقد أن عدم مشاركتها في الحكومة ومواقفها الأخيرة يساعدان على زيادة حصصها في المقاعد النيابية في شكل لافت.
أما بكركي والحريري، فقصة مختلفة تماماً، والهجوم المتبادل، يعكس تغيراً جوهرياً؛ بكركي في عهد البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير، ورغم كل ملاحظاته على الرئيس الراحل رفيق الحريري وعلى المستقبل لاحقاً، حافظت على علاقة متوازنة بينهما، ولم يتخطّ «المستقبل» الحدود معها مطلقاً. أما مع البطريرك بشارة الراعي، فبكركي كانت عونية الهوى في بداية حبريته، لا بل ان معظم المقيمين فيها، ومعهم مطارنة بارزون فيها وفي العاصمة، أقرب ما يكونون الى خط 8 آذار بالمعنى الفعلي. كل ما حصل من تودّد بكركي الى الحريري في مرحلة من المراحل، يسقط بمجرد أن يزور الراعي بعبدا، ومشكلة المقرّبين من الحريري أنهم وقعوا في فخ بعض (ما يرونه) «استفاقات» الراعي النادرة التي اعتبروها تحوّلاً يبنى عليه. فما جرى من تودّد الى الرياض والتقرّب منها معروفة حدوده الذهبية الرنانة، ولا علاقة لها بالحريري لا من قريب أو بعيد، لا بل إن الراعي أبدى اقتناعه بأسباب استقالة رئيس التيار الأزرق من رئاسة الحكومة حين التقى به في الرياض عام 2017. أكثر من ذلك، فإن فقدان البوصلة في بكركي أسهم في زيادة الشحن السياسي غير المبرر على خلفية عملية تشكيل الحكومة. وكذلك فإن تحويل ذكرى انفجار المرفأ مناسبة «طائفية» وإقامة قداس احتفالي برعاية بكركي يضاهي في انعكاسه خطيئة أصحاب العريضة. فمضاعفة الاستثمار السياسي والطائفي في العريضة ومعها وضدها، جريمة توازي جريمة المرفأ.