يصرّ حاكم مصرف لبنان، رياض سلامة، على التهرّب من التزامه بدء تنفيذ الآليّة الجديدة لدعم الدواء. فأمس، وعن سابق تصور وتصميم، خرج سلامة ببيان أعلن فيه أن الدولارات التي أنفقها مصرف لبنان لتأمين استيراد الدواء والمستلزمات الطبية في النصف الأول من العام الحالي تفوق ما أنفقه للغاية ذاتها طوال العام الماضي. بيان كهذا لم يأت لمجرّد توضيح الأرقام أمام الرأي العام، وإنما كانت وظيفته استباق ما سيعلنه وزير الصحة العامة حمد حسن في إطار تحديد الأولويات الدوائية التي تحتاج إلى دولارات من مصرف لبنان لاستيرادها، ودفع الوزارة للمزيد من «التشحيل» في تلك الأدوية. في شتى الأحوال، فإن ما يجري منذ أسابيع في هذه القضية، وفقدان الأدوية من الصيدليات وتضارب المعلومات بين وزارة الصحة والمستوردين ومصرف لبنان، يؤكد مرة جديدة وجوب اتخاذ الدولة قرارات غير اعتيادية: التصرف وفق ما تفرضه عليها الحالة الاستثنائية التي تعيشها البلاد، ومصادرة الأدوية المخزّنة في المستودعات، ومعاقبة المستوردين المتورّطين بالتهريب في حال عدم وجود الأدوية المستوردة... والأهم، إسقاط صفة «السلعة» عن الدواء، كونه من الحاجات الحيوية، واستيراده مباشرة وإيصاله إلى مستحقّيه من دون أرباح وتكاليف إضافية
كان من المفترض أن يعلن وزير الصحة العامة، حمد حسن، اليوم، لائحة الأولويات التي عملت عليها الوزارة، بناءً على طلب مصرف لبنان، لاستمرار عملية دعم الدواء، إلا أن حاكم المصرف، رياض سلامة، قرّر أن يفسد الأمر. وقبل ساعاتٍ من الموعد المنتظر، خرج سلامة بلائحته الخاصة التي نسف من خلالها كل أمل بتحصيل موافقة ممكنة لدعم الدواء. هكذا، وقبل ساعات من المؤتمر الصحافي المرتقب، ضرب سلامة ضربته، مستبقاً ما قد يقوله حسن اليوم في إعلانه، سواء كان حول ماهية الأدوية المطلوب دعمها أو القيمة المفترضة. ما فعله سلامة بدا محاولة لـ«فرملة» حماسة حسن ودفعه إلى التفكير ملياً... وترشيد ما أمكن من لائحة الأولويات.
لا يتوانى سلامة عن التلاعب بالجميع، كما لا يتوقف عن ابتزازه للناس في صحتهم. ومنذ البداية، كان ثمة شكّ في ما يطلقه من وعود، وقد تأكّد هذا الأمر أمس مع الجردة التي خرج بها عقب اجتماع المجلس المركزي لمصرف لبنان. وأعلن فيها الأخير أن ما صرفه على الأدوية والمستلزمات الطبية خلال ستة أشهرٍ من العام الجاري يفوق ما صرفه طوال العام الماضي. وبالأرقام، يلفت بيان المركزي إلى أن ما صرف حتى الشهر السادس من العام الجاري، بلغ ما قيمته مليار و500 مليون دولار أميركي، فيما كانت القيمة الإجمالية العام الماضي كله بحدود مليار و173 مليون دولار أميركي. وقد قسّم هذه المدفوعات على الشكل الآتي: 536 مليون دولار أميركي هي قيمة الفواتير المسددة حتى آخر شهر حزيران، و445 مليون دولار أميركي قيمة الفواتير العالقة عن الفترة نفسها، و460 مليون دولار أميركي قيمة الفواتير المقدمة للحصول على الموافقة المسبقة، يضاف إليها 20 مليون دولار قيمة فواتير مسدّدة لاستيراد حليب الأطفال. ولم يكتف حاكم المصرف بتلك السردية، إذ ارتأى في نهاية البيان أن يزيح عن كاهله أي مسؤولية، مشيراً إلى أنه «حذّر مراراً وتكراراً من طريقة التعامل مع الدواء والمستلزمات الطبية من دون مسؤولية من قبل هذا القطاع، والذي كانت نتيجته فقدان الأدوية من الصيدليات والمستشفيات»! بتلك البساطة، اعتبر مصرف لبنان أن المسؤول عن فقدان حبة الدواء من السوق تتحمله الشركات والحكومة.
لا يفهم المعنيون من تلك الضربة الاستباقية سوى دأب حاكم مصرف لبنان دوماً على «ذر الرماد في العيون»، على ما تقول مصادر وزارة الصحة. يستغرب هؤلاء «قدرة هذا الرجل على تزوير الحقائق»، مؤكدين أن هذه الأرقام التي أوردها حول قيمة الدعم «غير دقيقة، استناداً إلى الكشوفات والتدقيق في الفواتير التي قامت بها مصلحة الصيدلة في وقتٍ سابق». فبحسب المعطيات التي توافرت، تبيّن أن «الحسابات التي يوردها سلامة لا تعود كلها للعام الحالي، إذ إن هناك حسابات تعود إلى الأشهر الثلاثة الأخيرة من العام الماضي والتي يدمجها سلامة مع العام الحالي»، وقد ذهب الوزير حسن أبعد من ذلك أمس خلال مقابلة تلفزيونية بالقول إن «الفواتير التي سدّدها المصرف والتي يقول بأن قيمتها 536 مليون دولار لستة أشهر تضم فواتير متراكمة منذ شهر تموز من العام الماضي، والواضح أن أحداً لم يزوّد حاكم المصرف بتلك الأرقام». أما ما يتعلق بقيمة المبالغ التي لا تزال عالقة، فقد لفت حسن إلى أن بعضها مسجّل مرتين، بدليل اختلاف الأرقام بين الوزارة والمصرف، ومن هنا «سيكون هناك تفنيد لتلك الأرقام». أضف إلى ذلك أن ما يورده سلامة ليس قيمة الفاتورة الدوائية وحدها، وإنما تشمل أيضاً المستلزمات والمعدات الطبية، ولذلك «ليست دقيقة تلك المقارنة ما بين الأشهر الستة الحالية والعام الماضي». وهو أيضاً ما يشير إليه نقيب مستوردي الأدوية، كريم جبارة، مشيراً إلى أن الأرقام ليست دقيقة وسيستعرضون اليوم أرقامهم ويصدرون بياناً توضيحياً. والسؤال هنا: من الذي يكذب؟ المركزي أم المستوردون؟ ولنفرض أن أرقام المركزي دقيقة، أين هي الأدوية إذاً؟ وحليب الأطفال الذي يقول سلامة إن كلفة دعمه في الأشهر الستة الأولى من العام الجاري كانت بحدود 20 مليون دولار، فيما كان القيمة الإجمالية العام الماضي 17 مليون دولار؟ فهل هو موضّب إلى مرحلة ما بعد رفع الدعم؟ أم أن هناك من عمد الى تهريبه؟
وزير الصحة: يدمج مصرف لبنان في حسابات العام الجاري فواتير تعود إلى شهر تموز من العام الماضي!


وإن كانت أرقام المركزي ليست دقيقة، فما الدافع إلى إيرادها بذلك الحجم من المبالغة؟ وهل يريد سلامة في ذلك الوصول إلى خاتمة الدعم؟ يرى المعنيّون بملف الدواء أن هذا الأمر هو الأقرب إلى منطق الأمور استناداً إلى ما جرى خلال الفترة الأخيرة، إذ يشكّ هؤلاء في أن «يكمل الدعم حتى آخر السنة، إذ ثمة معلومات بأن الدعم قد يستمر لثلاثة أشهرٍ فقط، ويبدأ بعدها الرفع».
على الطرف الآخر، تشير معلومات أخرى إلى أن قيمة الخمسين مليون دولار أميركي التي يتداولها المعنيون باعتبارها قيمة ما سيقدمه سلامة شهرياً للدعم فيها «الكثير من المبالغة»، إذ إنه في أحسن الأحوال «يحدّد قيمة الدعم بما بين 35 و40 مليون دولار أميركي كحدّ أقصى». ولذلك، وبرأي بعض المصادر، فعل سلامة ما فعله أمس «واضعاً الضوابط أمام وزير الصحة حتى يأتي اليوم بلهجة خفيفة». ويذكر أنه في فترة سابقة، كان الحاكم يطرح دعم الدواء على أساس 25 مليون دولار أميركي شهرياً، «وكان ذلك خلال لقاء ثلاثي جمع إلى سلامة رئيس الجمهورية ووزير الصحة، وقد بادر الوزير حينها إلى الرد على سلامة بالقول: فليكن لدينا الجرأة بأننا اتخذنا قراراً بمعاقبة وزارة الصحة والمواطنين».
«بين حانا ومانا، ضاعت لحانا»، هكذا يختصر رئيس لجنة الصحة النيابية عاصم عراجي ما يجري بين المصرف المركزي والمستوردين. زحمة من البيانات بلا طائل، فيما المرضى يتسوّلون الأدوية من المعارف، حيث فرغت رفوف الصيدليات من الأدوية... أو أُفرِغت. ما لا يعرفه الحاكم والمستوردون أيضاً أن 100 صنف من أدوية السرطان مفقودة، وأن إبرة الأنسولين التي هي العلاج الوحيد لعدد كبير من مرضى السكري، والتي لا بدائل لها، مفقودة هي الأخرى.
هذه الوقائع تكشف حالة من الاستعصاء التي لا حلّ لها سوى بأن تقرر الدولة، استناداً إلى حالة «التعبئة العامة» المفروضة بسبب أزمة وبائية، التصرّف وفق ما تقتضيه الحالة الطارئة التي تعيشها البلاد. البداية هي بمصادرة الأدوية المخزنة في المستودعات، ومعاقبة المستوردين والتجار الذين يثبت تورطهم بالتهريب. والأهم، إسقاط صفة «السلعة» عن الدواء، كونه من الحاجات الحيوية، واستيراده مباشرة وإيصاله إلى مستحقّيه من دون أرباح وتكاليف تسويق. أو، وفق ما يقترح الأمين العام لحركة «مواطنون ومواطنات في دولة»، الوزير السابق شربل نحاس، ينبغي اعتبار السلع التي يجب دعمها (كالدواء) «خارج السوق، أو خارج الاعتبارات الكلاسيكية للسوق، وبالتالي يجب التدخل مباشرة في تقديمها، مثل التغطية الصحية» («الأخبار»، ملحق «رأس المال»، 12 تموز 2021).
إلى ذلك، وعلى خط اللوائح التي سيعلنها حسن، تجدر الإشارة إلى أن هناك 4 لوائح جرى دمجها في ثلاث، واحدة للأدوية غير المدعومة والتي تضم أدوية الـ otc والـ acute (أي التي لا تستهلك سوى مرة خلال العام أو مرتين) وهي بحدود 1300 دواء. أما لائحة الأدوية المدعومة، فهي مقسّمة ما بين لائحة أدوية الأمراض المزمنة وأدوية الأمراض السرطانية والمستعصية. وبالنسبة إلى أدوية الأمراض المزمنة، هناك توجّه نحو دعم المادة الدوائية، واختيار الدواء ذي الفعالية والأوفر ثمناً، ودعم «الجينيريك والبراند وفق معيار ثابت»، إلا أن هذه النقطة الأخيرة لا تزال موضع نقاش. في لائحة الأدوية المستعصية والسرطانية، فالميل نحو تفعيل لجنة المناقصات من أجل إجراء مناقصة موحّدة لكل الصناديق والجهات الضامنة للاستيراد المباشر لأدوية السرطان بما يخفف الكلفة في الفاتورة الدوائية، وخصوصاً أن تلك الأدوية تشكل ما نسبته 35% من مجمل الأدوية.