أطلقت مديرية الدراسات الاستراتيجية في «المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق» (بيروت) مشروعاً بحثياً بعنوان «تفكيك المزاعم الأميركية حول دور حزب الله في أميركا اللاتينية»، لمحاولة فهم السياق الذي خرجت فيه الاتهامات لحزب الله بالتورّط بنشاطات الجريمة المنظّمة، التي كان واضحاً بأنّها في أغلبها تتّخذ من أميركا اللاتينية مسرحاً للضخّ ونسج الروايات والقصص عن مزاعم تورّط الحزب سالفة الذكر. يهدف المشروع البحثي إلى عرض ومراجعة الادعاءات الأميركية حول العلاقة المزعومة لحزب الله بكارتيلات تجارة المخدرات وعصابات الإتجار بالبشر والبضائع المهرّبة ومنظمات غسيل الأموال في أميركا اللاتينية، وفهم عملية إنتاج تلك المزاعم وكشف آلياتها وقنواتها. ويستند المشروع إلى مراجعة ودراسة وتقصّي عشرات الجلسات داخل الكونغرس الأميركي حول حزب الله وقوانين أميركية وقرارات تنفيذية وبيانات من وزارة العدل الأميركية وتصريحات لمسؤولين أميركيين وكتابات لخبراء وأكاديميين ومقالات صحافية وتحقيقات إعلامية. أما نتائج هذا البحث وخلاصاته فيجري نشرها بالتتابع ضمن سلسلة أوراق مصنَّفة موضوعياً بحسب ما يثيره الأميركيون من موضوعات لمحاولة إدانة حزب الله. في ما يلي خلاصة العدد الأول من هذا المشروع
(هيثم الموسوي)

أولاً: السردية الأميركية عن دور حزب الله في أميركا اللاتينية
تبذل الولايات المتحدة موارد وجهوداً هائلة لربط حزب الله بالقسم الغربي من الكرة الأرضية، لا سيما أميركا اللاتينية، مستفيدة من وجود ملحوظ لمهاجرين لبنانيين في تلك المناطق. ويفيد هذا الربط بأنه يتيح تعبئة الرأي العام الأميركي ضد حزب الله باعتباره ينشط في «الحديقة الخلفية» للولايات المتحدة، أي أنه يمثّل تهديداً مباشراً وقريباً للأرض الأميركية، كما أنه يمهّد لإيجاد صلات مزعومة بين حزب الله وجملة من الأنشطة الإجرامية التي تجتاح منذ عقود القارة الأميركية، مثل تجارة المخدرات وغسيل الأموال ونشاط الجريمة العابرة للحدود.
تعتبر سردية اتهام حزب الله بتجارة المخدرات والتورّط بنشاط الجريمة المنظّمة العابرة للحدود آخر صرعات الإعلام السعودي والإماراتي والمموَّل منهما. لكن، حُكْماً، ليس السعوديون ولا الإماراتيون ولا أتباعهم في لبنان أول من استرشد إلى هذا التوظيف في الحرب السياسية والإعلامية، فمن يحجّ إليهم هؤلاء في واشنطن كانوا السبّاقين في استعمال هذه الاتهامات، بتنسيق وتساوق مع العدو الإسرائيلي، لخدمة أهداف كانت تنحصر بتصفية حسابات مع أنظمة يسارية في أميركا اللاتينية، أو لتعزيز سرديات اليمين الأميركي داخل الولايات المتحدة، وأخيراً لتشويه صورة الحزب داخل لبنان ومحاولة عزله عن بقية المكونات اللبنانية.
ارتفع منسوب الاتهامات الموجَّهة لحزب الله بالضلوع في تجارة المخدرات وغسيل الأموال والنشاط الإجرامي والجريمة المنظّمة بشكل لافت في السنوات الأخيرة في الولايات المتحدة الأميركية، إلى جانب الاتهام القديم المتجدّد بما يُسمّى «الإرهاب». وفي تشرين الأول عام 2018 بلغ الأمر الذروة مع إعلان وزارة العدل الأميركية عن «تصنيف حزب الله كمنظّمة إجرامية عابرة للحدود»، بما برهن أنّ الاتهامات لم تقتصر على تقارير صحافية أو سرديات تتناقلها وسائل إعلام. هذا التصنيف يعكس قراراً أميركياً بالانتقال إلى مرحلة جديدة في الحرب على حزب الله، تضاف إلى مراحل العقوبات والتصنيفات ضمن قوائم ما يسمى «الإرهاب».

ثانياً: جلسات الاستماع في الكونغرس
تُعتبَر جلسات الاستماع في الكونغرس الأميركي من أبرز مصادر استقاء المزاعم الأميركية تجاه حزب الله في أميركا اللاتينية. وقد مثّلت لجان الكونغرس المعنية بهذه الجلسات نقطة المصب لمعلومات وآراء الجهات والمستويات الإعلامية والسياسية والقانونية والأمنية الأميركية صاحبة المصلحة بهذا الموضوع. من هنا جاء العدد الأول من المشروع البحثي الذي حمل عنوان «جلسات الكونغرس حول حزب الله في أميركا اللاتينية: البيانات والمشاركون»، ليعرض بالأرقام والرسوم البيانية أبرز مضامين نحو 100 جلسة استماع عقدتها لجان مختلفة في الكونغرس الأميركي بغرفتَيه بين عامَي 2005 و2018، وربطها بأحداث واستحقاقات تعني الأميركيين وحزب الله على حد سواء. ويفحص العدد الأول من البحث خلفية الشخصيات التي دُعِيَت للإدلاء بشهاداتها في الجلسات عن الدور المزعوم لحزب الله، إضافة إلى خلفيات أبرز أعضاء الكونغرس الذين نظّموا هذه الجلسات، وما لوحظ عند فحص مصادر تمويل حملاتهم الانتخابية، بالتزامن مع عقد هذه الجلسات وإقرار قوانين عقوبات استهدفت حزب الله.
الغالبية العظمى من رؤساء اللجنة كانوا إمّا يهوداً صهاينة، أو من اليمين الإنجيلي المتصهين المتمسّك بالدفاع عن مصالح «إسرائيل»


تجدر الإشارة إلى أنّ عدد جلسات الاستماع التي تحدّثت عن حزب الله ودوره في لبنان والشرق الأوسط وحتى في أوروبا وأفريقيا كان أكثر بكثير من مئة جلسة (موضوع البحث)، لكن تمّ حصر البحث في الجلسات التي جرى الحديث فيها عن نشاط إجرامي مزعوم لحزب الله انطلاقاً من دول أميركا اللاتينية، لكي لا يتوسّع موضوع البحث من جهة، ولضمان دراسة المستجد في السياسة الأميركية تجاه حزب الله، عن ما هو معروف من تهم «الإرهاب» المعهودة تاريخياً.
على صعيد الشكل ووتيرة عقد جلسات الاستماع والعناوين التي تناولتها للتحريض على دور مزعوم لحزب الله في أميركا اللاتينية، لوحظ في البحث أنّ هناك ارتفاعاً مستمراً وملحوظاً لعدد جلسات الكونغرس المخصَّصة لهذا الغرض أو تتعرَّض له في هذا السياق، فمن جلسة واحدة عام 2005 إلى الذروة بواقع 18 جلسة في عام 2017. وقد سُجِّل ارتفاع في عدد جلسات الاستماع المذكورة في المراحل التي يحصل فيها توتّر في لبنان ومحيطه، كما حصل أثناء وبعد حرب تموز عام 2006، وأثناء المفاوضات النووية مع إيران وبعد التوصّل للاتفاق معها عام 2015، والانتفاضات العربية وإخفاق واشنطن في سوريا. وهذا الارتفاع إما يهدف لوضع ضغوط على محور المقاومة لعزله عن التأثير وإما نتيجة انقسامات بين الحزبين داخل الكونغرس، أو لممارسة ضغوط على حكومات دول في أميركا اللاتينية.
رغم أنّ أغلب الجلسات المرتبطة بحزب الله كانت ضمن خانة «الإرهاب والأمن القومي» وليس «الجريمة المنظّمة»، إلا أنه في أغلب جلسات «الإرهاب والأمن القومي» كان يجري الحديث عن صلات مزعومة لحزب الله بالجريمة المنظّمة، وذلك لإيجاد صلة مفترضة بين «الأنشطة الإرهابية» لحزب الله والصلات الإجرامية المزعومة، بغية التشدّد في الثانية، لأنّ الجهد تركّز في السنوات الأخيرة على الدفع لتصنيف حزب الله كمنظمة إجرامية وأيضاً لتحريض الرأي العام الأميركي على الحزب، باعتبار أنّ نشاطه الإجرامي المزعوم يشكّل تهديداً لأمنهم القومي المباشر.

ثالثاً: دور اللوبي الصهيوني في تحشيد الحملة
أغلب جلسات الاستماع في مجلس النواب عُقِدَت خلال احتفاظ الجمهوريين بالغالبية في المجلس (82 في المئة من الجلسات)، بينما عُقدَ فقط 14 جلسة من أصل 81 جلسة خلال احتفاظ الديمقراطيين بالغالبية. وقد تبيّن أنّ لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب تحتل صدارة اللجان في جلسات الاستماع المذكورة، وذلك يعود لطبيعة دورها ومهامها، لا سيما أنّ هذه اللجنة معنيّة بصياغة القوانين (كما في حالة العقوبات) المتعلّقة بكيانات وتنظيمات خارجية كحزب الله. وما لوحِظ في البحث بعد التدقيق بخلفيات الذين تعاقبوا على شغل منصب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب وما يسمى بــ«العضو المميز» (زعيم الأقلية في اللجنة) فيها، أنّ الغالبية العظمى كانوا إمّا يهوداً صهاينة، أو من اليمين الإنجيلي المتصهين المتمسّك بالدفاع عن مصالح «إسرائيل»، إلى درجة يمكن الحديث عن علاقة مباشرة بين شغل المنصب والانتماء الأيديولوجي. وقد توضّحت هذه العلاقة أكثر عند التدقيق في بيانات تمويل الحملات الانتخابية لرؤساء اللجنة والأعضاء المميّزين فيها، إذ يرتبط استلام منصبَي رئيس اللجنة و«العضو المميز» بتصاعد التمويلات التي يتلقّونها من اللوبي الإسرائيلي ومؤسساته لحملاتهم الانتخابية، ما يشير للأهمية التي يوليها الصهاينة لدور هذه اللجنة والسعي للتأثير في أجندتها.
حصل النائب الديمقراطي توم لانتوس، العضو المميز في اللجنة بين عامَي 2005 و2006، على تمويل يقدّر بنحو 56,150 دولاراً خلال هذين العامين. بعد وفاة توم لانتوس في 11 شباط عام 2008، واستلام زميله الديمقراطي هوارد بيرمان رئاسة لجنة الشؤون الخارجية، بدأ يرتفع منسوب تمويل جماعات اللوبي الإسرائيلي حملة بيرمان الانتخابية. وبلغت ذروة دعم جماعات اللوبي الإسرائيلي المالي لحملته الانتخابية بين عامَي 2011 و2012 (فترة شغله منصب عضو مميز للجنة) بما يقارب 221,470 دولاراً. مع خسارة الديمقراطييين الغالبية في الانتخابات النصفية في تشرين الثاني عام 2010، وانعقاد الكونغرس الـ112 بداية عام 2011، استلم الجمهوريون رئاسة لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، وأوكِلت مهمة رئاسة اللجنة إلى النائبة عن ولاية فلوريدا إيليانا روس-ليتينان.
بين عامَي 2003 و2016 تلقّت حملة روس-ليتينان الانتخابية ما يقارب 1,044,894 دولاراً من جماعات اللوبي الإسرائيلي الأميركي، وهو رقم قياسي إذا ما قورن بالمبالغ المالية التي تلقتها الحملات الانتخابية من اللوبي لبقية الرؤساء والأعضاء المميزين السابقين واللاحقين للجنة. في 3 كانون الثاني عام 2013، استلم النائب الجمهوري إدوارد رويس رئاسة لجنة الشؤون الخارجية من زميلته إيليانا روس-ليتينان، واستمر في رئاستها حتى انتهاء ولاية الكونغرس الـ115 مع بداية عام 2019.

ما يقرب من نصف المشارَكات في الجلسات استحوذت عليها مراكز بحثية تتلقّى دعماً سخياً من اللوبي الإسرائيلي


بحسب الأرقام المصرَّح عنها، تلقّى رويس، الجمهوري الإنجيلي، حوالي 458,987 دولاراً من الجماعات المرتبطة باللوبي الإسرائيلي خلال الفترة بين عامي 2013 حتى نهاية عام 2018. اللافت أنّه لم يُسجَّل تقديم هذه الجماعات دعماً مالياً معلناً لحملة رويس قبل فترة تسلّمه رئاسة اللجنة عام 2013. بين كانون الثاني 2013 وكانون الأول 2018، شغل النائب عن ولاية نيويورك الديمقراطي إليوت إنغل، منصب العضو المميز في لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب. خلال هذه الفترة، حصل إنغل على تمويل سخي من جماعات اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة. تلقّت حملته الانتخابية من جماعات اللوبي الإسرائيلي حوالي 139,000 دولار في الدورة الانتخابية 2013-2014، بزيادة حوالي 50,000 دولار عن الدورة التي سبقتها، وقفزت إلى 190,000 دولار في الدورة الانتخابية 2015-2016، في ارتفاع ملحوظ بحجم التمويل بعد تسلّم إنغل منصب «العضو المميز» في اللجنة.
بين عامَي 2005 و2018، تقدّم النواب المتعاقبون على إدارة عمل لجنة الشؤون الخارجية وغيرهم من الأعضاء بمشاريع قوانين عدة استهدفت إيران وحزب الله، بعضها أقرّ وبعضها الآخر لا يزال في أدراج اللجنة. أخطر مشاريع القوانين تقدّم بها الجمهوري الإنجيلي إدوارد رويس، رغم عدم تجاوز عددها الثمانية، لكن اثنين منها استهدفت حزب الله بشكل خاص وأُقِرَّت وهما: «قانون منع التمويل الدولي لحزب الله لعام 2015 - HIFPA»، و«قانون منع التمويل الدولي لحزب الله المعدَّل لعام 2018».
الملاحظة الهامة الثانية في هذا الإطار، برزت عند التدقيق بخلفيات مجموعة من المراكز البحثية والفكرية التي دُعِيَت للإدلاء بشهاداتها أمام اللجان في جلسات الاستماع. وقد تبيّن أنّ عدداً كبيراً من مراكز الأبحاث والفكر والخبراء جرت استضافتهم لإضفاء طابع مهني واحترافي على الجلسات لشرعنة ما يرد فيها وما يجري ترتيبه عليها. وقد استحوذت مراكز بحثية بعينها على ما يقرب من نصف المشاركات في الجلسات المذكورة (كمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات ومعهد واشنطن ومعهد المشروع الأميركي)، وهذه المراكز تمتاز بخطّها الأيديولوجي الداعم لـ«إسرائيل»، وتتلقّى دعماً سخياً من اللوبي الإسرائيلي - بحسب بيانات اللجنة الفيدرالية الأميركية للانتخابات ومركز السياسات المستجيبة (CRP).
دُعِيَ للمشاركة في جلسات الاستماع المئة خليط من الباحثين ومديري الأقسام في العديد من المراكز البحثية إلى جانب خبراء وأكاديميين من جامعات وبلدان أجنبية. لكن أكثر ما يُلاحَظ عبر سجل المشاركين في الجلسات، تكرّر مشاركة أشخاص بعينهم، من المنتمين إلى مراكز ومعاهد مرتبطة باللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة، بل إنّ أغلبهم من المتحمّسين لاستهداف صورة الإسلام بشكل عام، وحركات المقاومة بشكل خاص، وعلى رأسها حزب الله. كان دوغلاس فرح أكثر المشاركين في جلسات الاستماع بواقع 12 مرة، تلاه كل من ماثيو ليفيت الباحث في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، وإيلان بيرمان نائب رئيس «مجلس السياسة الخارجية الأميركية» بواقع 9 مشاركات لكلٍّ منهما، ثم إيمانويل أوتولينغي الباحث في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» بسبع مشاركات، وكل من مايكل برون مدير العمليات السابق في وكالة مكافحة المخدرات الأميركية، وسكوت موديل الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS بواقع 5 مشاركات. جميع هؤلاء الباحثين هم إما من اليهود الصهاينة، أو من المسيحيين الإنجيليين اليمينيين الذين يعملون لصالح الكتل اليمينية الصهيونية المعادية للملسمين عموماً.

خاتمة:
هذه الأرقام المعطيات ستكون ضرورية للفهم الأولي للنسق الكمّي للتحريض والاتهامات التي أثيرت تحت قبّة الكونغرس الأميركي، وتطوّرها على مدى السنوات، وهي ستكون حاجة لا بد منها لفهم مضامين الأعداد اللاحقة من البحث، التي ستتناول بالتفاصيل الدقيقة خلفيات المراكز والشخصيات البحثية التي شاركت في جلسات الاستماع، وحركة المال التي تغذّيها، للتحريض على الدور المزعوم لحزب الله في أميركا اللاتينية، ولماذا التركيز على المنطقة الحدودية الثلاثية بين البرازيل والأرجنتين والباراغواي عند التحريض على هذا الدور المزعوم، إضافة إلى عرض لبحث استقصائي لأصل اتهام حزب الله بتجارة المخدرات وما يتحدّثون عنه بأنّ لدى الحزب فتوى مزعومة تجيز لعناصره الإتجار بالمخدرات لاستهداف الأعداء.