لا يمكن التعامل مع أزمة المحروقات والكهرباء والدواء والمستشفيات وقطاعات التأمين العامة والخاصة، وغيرها من الأساسيات كأزمة الطحين التي تطلّ برأسها، من الناحية الاقتصادية والمالية المجرّدة من الحسابات السياسية. الواضح، بحسب مصادر سياسية، أن رزمة الملفات المتعثّرة الحياتية باتت في صلب مشكلة انسداد الأفق أمام أي حل للأزمة السياسية، مثلها مثل الصراع على التشكيلة الحكومية والحصص ومشكلة النظام ككل. ودخلت هذه الملفات الحياتية، بصرف النظر عن انعكاسها على حياة اللبنانيين وصحتهم، في خضم صراع مكشوف يسعى كل طرف الى استخدامه أداة صراع متعددة الوجوه والغايات، في انتظار انكشاف الخطوات التالية لدى الأفرقاء المحليين والخارجيين.لا يدخل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الى قصر بعبدا، إلا بشقّ النفس. أي أنه لا يلبّي الدعوة الى اجتماع عام يتعلق بالكهرباء والمحروقات والدواء إلا تحت ضغط سياسي من العهد ومن التيار الوطني الحر. ومع ذلك، فإن كل وعود سلامة، والتبشيرات التي تطلق عن حلول في الأزمات المتراكمة يوماً بعد آخر، وبقرب انتهاء طوابير البنزين وتحسّن التغذية الكهربائية، لم يتحقق منها إلا غلاء الأسعار في البنزين والمازوت، مقابل اختفاء المادتين من السوق وتضاعف صفوف السيارات و«عجقات السير» وحرق أعصاب اللبنانيين، يضاف إليهما فقدان الأدوية في شكل استثنائي (إحدى الشركات امتنعت عن تسليم مئة وخمسين دواءً أساسياً في أسبوع واحد) رغم وعود سلامة التي ينسفها حال خروجه من باب القصر. من هنا، فإن الصورة التي ترتسم تؤشر الى أن أدوات الانقسام الحالي تعدّت الصلاحيات والحقائب والضرورات الطائفية والمذهبية، لمصلحة استعمال الذل اليومي جزءاً أساسياً في الصراع الدائر على كل المستويات، ويلعب الجميع بالنار في كل ما تطاله أيديهم في كل الضرورات الحياتية.
يضغط العهد وحزبه على سلامة لتسهيل شركات المحروقات وبعض المصالح الأساسية في المازوت والبنزين والأدوية والكهرباء لتسيير بعض الأمور اليومية، مستفيداً منها في إطار انتخابي محلي بحت. في المقابل، يمسك الحاكم ومن ورائه مجموعة سياسية داعمة من بينها الرئيس المكلف سعد الحريري، بأوراق الضغط الكثيرة التي يملكها، لمنع تسهيل إمداد السوق وعمليات فتح الاعتمادات لكل ما سبق، إضافة الى مصير المنصّة التي أطلق في شأنها وعوداً فضفاضة تبخّرت في الهواء، من أجل استكمال الضغط على العهد. وينجح هذا الفريق في تحويل الشارع إلى خزّان متفجّر من الصدامات التي لا تنتهي وارتفاع النقمة ضد العهد.
ومشكلة العهد أنه يتصرّف تجاه ملف الأزمات من دون خريطة واضحة، لا بل بـ«المياومة». فلا يعالج الأزمات التي تنتج من سوء تطبيق سلامة لمقررات الاجتماعات المتتالية التي يرأسها رئيس الجمهورية، ولا يلاحق عدم تطبيقها، ولا يسأل حتى عن مصير التعهدات اليومية بحصول انفراجات واسعة تخفّف من حجم الانهيار. لكن الضغط الذي بدأ التيار الوطني الحر يتلمّسه في معاناة جماهيره، وانسداد الأفق السياسي وتأثيرات ذلك على الاستحقاقات المصيرية والتخبط في رسم صورة المرحلة المقبلة، سيراكم ردود فعله على سلامة ومن خلفه. وثمة أجواء تتحدث عن أنه ينتظر الفرصة المناسبة للانقضاض على حاكم مصرف لبنان، بالمعنى الشعبي والسياسي. وهو في مرحلة تشتت الأوضاع الداخلية ينتظر انتهاء الحريري من مرحلة التكليف واعتذاره، وحينها سيكون أمام «انتصار» يسعى الى استثماره في مزيد من «الاستشراس» تجاه سلامة ومَن وراءه، لمحاولته تمييع كل ما اتفق عليه من حلول جزئية ومرحلية ووعود بتقطيع مرحلة تقارب على الأقل ثلاثة أشهر.
قد تساهم مرحلة اعتذار الحريري في إخراج التيار من الحصار الذي وضع نفسه وحُشِر فيه، وساهم به من خلال ترك المجال مفتوحاً لحاكم مصرف لبنان وصرف النظر عن تراجعه عن تعهدات سابقة، في مرحلة تقاطع المصالح خلال التسوية الرئاسية أو لإمرار مصالح تخص العهد وتياره، لكن الظروف اختلفت اليوم. وأيّ فرصة تلوح في الأفق أمامه، وقد تكون البداية مع التدقيق الجنائي على مراحل، سيحوّلها لمصلحته في رفع صوته، من ضمن خطة عمل، ستكون خريطة طريقه نحو الانتخابات.
فالتيار كما خصومه سيستفيد من تدهور الأوضاع المعيشية والاجتماعية لتصبح مادة دسمة في مسار استحقاق عام 2022. واعتذار الحريري سيعطيه مزيداً من الحرية في رفع مستوى الاستثمار الانتخابي، في ملفات المصارف والتدقيق الجنائي وتهريب الأموال وملفات الفساد. المشكلة الأساسية التي ستواجه الجميع من الآن وحتى يحين موعد الاستحقاق الذي يصرّ عليه الاتحاد الأوروبي مع الحدّ الأدنى من الاستقرار الداخلي، وهو جزء أساسي من زيارة وزير الخارجية القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني لبيروت، ألا يتحمل الوضع الميداني والمعيشي مزيداً من الضغوط السياسية والاجتماعية بعد مسلسل الانهيارات المتسارعة، ما يجعل الانتخابات، بالحد الأدنى، في دائرة الخطر ويرسم شكوكاً في إمكان إجرائها.