شهدت منطقة وطى المصيطبة في بيروت حدثاً بارزاً، الأحد الماضي، حيث توافد إليها ما يوازي الثمانية آلاف دنيا، إذا ما قسنا المهندس كما يراه مجتمعنا. عدد المشاركين في الحدث مهمّ بحدّ ذاته كونه قياسيّاً في انتخاباتٍ لهيئة المندوبين في نقابة المهندسين، لكن الأهمّ كان اكتساح نتائج الانتخابات من قبل تحالف لائحة «النقابة تنتفض». نجح التحالف الفسيفسائي في استقطاب فئة كبيرة من المتململين من تقاعس النقابة، وبان التأفف أكثر جرّاء الانهيار الاقتصادي. إذ إن تقديمات النقابة التي كانت مغرية جدّاً للكثير من المنتسبين وعائلاتهم في أيام ولّت، فقدت رونقها في زمن تشتّت المدّخرات وزوال شبكات الأمان. هامش هنا عن التضادّ اللفظي المسمّى شركات تأمين، فكيف للأمان أن يأتي من شركات ربحيّة تتّبع نفس نموذج عمل المصارف الاستثمارية، وهي باتت غالباً ترتبط عضوياً بمصارف تجارية منذ أن رفعت معظم بلدان العالم القيود الرقابية التي كانت تمنع ارتباط شركات التأمين بالمصارف التجارية وشركات الاستثمار في تسعينيات القرن الماضي.بيد أن الإغراء النقابي في الهندسة لم يكن فقط في الامتيازات والتقديمات للمنتسبين، بل في المشاريع التي كانت في الماضي تنفذها الدولة وتوكلها لشركات موالية لقوى السلطة، والتي كانت بدورها تشغّل المهندسين وتحسّسهم بأنهم فعلاً «قدّ الدنيا». لن ندخل في نقاش حول منفعة تلك المشاريع للنقابة وتشابك المصالح، من مشاريع مجلس الإنماء والإعمار إلى نهبة سوليدير الكبرى لعقارات وسط البلد، لأن ذلك يحرف النقاش عن الخطوات المستقبلية المحتملة، والتي قد تكون ثورية نتيجة التغيير الكبير في مزاج المهندسين الانتخابي. الحديث في هذه المرحلة يجب أن يكون في بديل مختلف عمّا كان قائماً لئلّا يمتطي اللحظة ويستثمرها بديلٌ مستنسخٌ عن المنظومة البائدة.
هنا يمكن استحضار حديث أنطونيو غرامشي عن فترة خلوّ العرش بين الحُكمَين، حيث يقول إنه في هذه الفترة هناك أزمات تخلق من واقع أن «القديم يحتضر، بينما الجديد لا يستطيع أن يولد»، وأن هذه الأزمات هي نتاج ابتعاد الجماهير عمّن يمثّلها سياسياً وتخلق فجوة بين الممثِّل والممثَّل تؤدي إلى علامات احتضار عامة. البدائل الثورية في هذه الحالة تكون في تحطيم الأطر التي كانت تقوم عليها موازين القوى القديمة، وبناء أطر ثورية بديلة تؤسس لموازين القوى الجديدة. لكن ذلك يفترض نية ثورية ليست موجودة بالضرورة في زوايا النقابة المنتفضة. وقبل الدخول في تفاصيل ما يمكن أن يحدث في الجولة الجديدة والأكثر أهمية من مبارزة نقابة المهندسين القادمة بعد اسبوعين، لا بد من استذكار «الإنجاز» الذي حصل في نقابة المحامين، حيث تم الاحتفاء بالحلم الآتي ملحم خلف قبل أن يبشّرنا هو شخصياً، من على منبر حزب المصرف المفضّل، أنه حلمٌ «صار الوقت» أن يتجسّد. روّج في حينها للنقيب المنتخب من خارج السلطة على أنه بديل ثوريّ، في حين أنه صنم رجعيّ مستنسخ عن كل من سبقه من الأصنام الجمهورية (نسبة إلى مدرسة الجمهور) التي تنتج نخبة النخب في الجمهورية اللبنانية منذ نشأتها. معظم المحامين الذين تخرّجوا وتدرّجوا في قضاء الجمهورية تتلمذوا على أيادي كنسيّي الجمهور (ثم جامعة القدّيس يوسف)، وهي من أكثر المؤسسات الرجعية نفوذاً في البلد، إذ إنها حتّى اليوم تعامل الطفل الذكر الذي يدخل حضانتها كمشروع نائب أو وزير، بينما لا تنظر إلى رفيقاته في الدراسة بالطريقة نفسها. لكن تأميم النظام التربوي ليس موضوع اليوم، ولا هو من صلاحيات نقابة المهندسين، وتركيبة نقابة المهندسين لا تشبه نقابة المحامين. فالمهندسون في لبنان ليسوا حكراً على مدرسة أو جامعة واحدة، وإن كانوا تجمّعاً نخبوياً من الطبقة الوسطى وما فوق. لكن هذا التنوّع النسبي يخسر قيمته في غياب أي طرح سياسي، ثورياً كان أو غير ثوري، في الحملات الانتخابية وحصر الأجندة بالأمور الإدارية الجامعة والمنضوية تحت شعار مواجهة السلطة الفاسدة الفضفاض. هكذا تصبح المعركة الانتخابية استعراضاً للتكنوقراط الأنسب لقيادة مرحلة إنقاذ المنظومة من نفسها، ولعلّ الحكومة المستقيلة التي تصرّف الأعمال منذ ما يقارب الأحد عشر شهراً أبرز مثال على عدم ثورية التكنوقراط. وبما أن التحالف الفائز بانتخابات هيئة المندوبين هو «من كل واد عصا» كذلك هي الطروحات التي لا يوجد أصلاً إطار تنفيذي لها ضمن هيئة المندوبين. فهناك من يريد تأسيس اتّحاد ائتماني يقي المنتسبين شرّ رياض سلامة مستقبلاً بعدما «أكلوا الضرب»، وتوجد طروحات في كيفية التعاطي مع ملفات الكهرباء والنفط والبيئة وغيرها من المواضيع التي تثير العواطف ليس أكثر، كونها خارج نطاق صلاحيات الهيئة، وإن كانت تنفع كبروفة للشعارات «البيّيعة» في الانتخابات النيابية العتيدة.
لا يلغي كل ذلك أن الخسارة المدوّية لتيار رفيق الحريري وشريكه وخليفته الأمين النبيه بري في النقابة هي مدعاة أمل، لكن الحركة بحد ذاتها ليست بركة إن لم تكن في منحى تغييري. وهنا نعود إلى أعراض الاحتضار الغرامشية للمنظومة التي تحدّث عنها قبل تسعين عاماً. هذه الأعراض تشمل «العنف السياسي العلني وتفشّي التظاهرات، وصعود وتقبّل المواقف السياسية المتطرّفة وقياداتها، وتقلّبات غير مسبوقة في العلاقات الدولية واستنفاد مفاجئ لمؤسسات كانت قوية». في السياق التاريخي لنبوءة غرامشي كانت الفاشية هي الجديد الذي استطاع أن يولد بدل القديم المحتضر. طبعاً لا موسوليني ولا هتلر في هيئة المندوبين في نقابة المهندسين، ولا وطى المصيطبة هي فيشي. لكن غياب المواقف المتطرّفة من الأضداد المتحالفة في نقابة تنتفض في ظل احتضار المنظومة، يعكس حرصاً غير مبرّر (أو غير مقصود) على الحفاظ على أحد أعمدة المنظومة كما هي، وإن كان بفساد أقل كما يدّعي. للتذكير، هناك من دمّر ودجّن النقابات العمالية التي تشكّل تهديداً للمنظومة، لكنه لسبب ما حافظ على قوّة ونفوذ نقابات مهنٍ معيّنة، ومنها المتنازع عليها اليوم. لماذا يا ترى؟ قد يتسلّل مجلس نقابي ثوري على ظهر الحلف العريض ويفرض تنظيماً مدنياً يحوّل وسط مدينة الأشباح إلى مساكن شعبية تعيد الروح إلى بيروت، أو هذا ما يحلم به الطامحون بثورة. لكن الأرجح أن يكون الحلم الهندسي الآتي على شاكلة الخلف الطالح في المحاماة.
حلّ أزمة البديل هو من أهم المعارك الثورية في مرحلة الاحتضار هذه. على هذا البديل أن يخلق أدواته لا أن يرتضي أدوات اللعبة المسموحة له من قبل المنظومة، وطبعاً لا ينبغي أن يساهم في تعزيزها وبقائها. على البديل الثوري أقلّه أن يصيغ خطاباً ثورياً راديكالياً يتناسب مع حجم تطلعات شعب ضاق بالمنظومة ذرعاً. البديل الثوري حتماً لا مكان لآل الجميّل وكتائبهم فيه. لكن إلى حين أن يتبلوَر ذاك البديل الثوري، مبروك «السحسوح» لمن اعتاد أن يوزّعه لا أن يتلقّاه.