في معركة البدائل من السلطة القائمة، ثمة طروحات كثيرة قامت خلال السنوات الثلاثين الماضية. في النصف الأول من هذه الحقبة، يوم كانت سوريا تشارك والسعودية والأميركيين الإشراف على تطبيق اتفاق الطائف، كان السوريون أنفسهم يديرون الأمر. هم نظّموا التوافق بين أركان المنظومة الحاكمة ووزعوا الحصص والأدوار، وكانت قاعدتهم تستند الى أن الاتفاق مع السعودية والأميركيين يجعل رفيق الحريري شريكاً كامل المواصفات. لكن السوريين لم يبخلوا على قوى وشخصيات لعبت دور المعارض المشاكس لكل الفرقة التي كانوا يعتقدون أن الحريري يؤثر عليها، وخصوصاً رئيس الجمهورية والزعيم الدرزي. ولذلك، سارعوا الى بناء صلات مع شخصيات مسيحية، أبرزها سليمان فرنجية، وعملوا على تعزيز موقع طلال أرسلان، وسعوا لأجل تعزيز بعض المواقع السياسية السنية في عدد من مراكز المدن اللبنانية. وفوق كل ذلك، وجدوا آلية تجعل الجيش اللبناني يقف على مسافة من منظومة الحكم، وحتى من الآخرين. لكن القاعدة السورية ركزت على خلق قنوات تواصل خلفية مع الجميع، ووزعت القيادة السورية الأدوار داخل دمشق نفسها. مجموعة حكمت الشهابي وعبد الحليم خدام ومعهما غازي كنعان في بيروت كانت تدير اللعبة كلها، لكن مهام المعارضين من داخل النظام أسندت الى فريق آخر في سوريا كان البارز فيها المرحوم باسل الأسد ثم بشار الأسد، قبل رحيل الرئيس حافظ الأسد. وكان أمين السر الشخصي للأسد الأب، اللواء محمد ناصيف، يتولى تنظيم الأمر كله.على هامش كل هذا المشهد، كانت هناك أصوات اعتراضية من خارج كل هذه التركيبة. كان أساسها بعض الأطر النقابية العمالية أو من المهن الحرة. وكانت هناك شخصيات من قلب النظام، لكنها أكثر استقلالية، وكان البارز فيها نجاح واكيم، وكانت هناك أصوات اعتراضية من الدائرة المسيحية انحصرت في الصحافة على وجه الخصوص. لكن الجميع، من أركان النظام أو معارضيه من الداخل، يبحثون عن مركز آخر للاعتراض، ليقفوا على خاطره. في تلك الفترة، كان حزب الله خارج المسألة الداخلية. حضور نبيه بري داخل الدولة، وقيادة الجيش مع إميل لحود وجميل السيد يوفّران الحاضنة للمقاومة. أما الحريري والآخرون، فكانوا يبحثون عن صفقة مع المقاومة تمنع تدخلها في اللعبة الداخلية، وكانت سوريا نفسها ترفع البطاقة الحمراء بوجه كل من يحاول إيذاء المقاومة.. عملياً لم يكن في لبنان من معارض جدي خارج هذه التركيبة، سوى من يقدر على رفع الصوت ليس بوجه التركيبة الداخلية بل في وجه سوريا. وقد تولى البطريرك الماروني الراحل نصر الله صفير هذا الدور.
من داخل التركيبة، كان رفيق الحريري الوحيد الذي تربطه علاقات خاصة بالكنيسة، سواء مع بكركي أم مع المطران الياس عودة في بيروت. لكن الأمر لم يكن يتعلق بدهاء خاص عند الحريري، بل لكون الأخير يمثل الطرف الغربي في المعادلة التي تحكم لبنان. كان المسيحيون يتصرفون مع الحريري على أنه ممثل للولايات المتحدة وفرنسا والفاتيكان الى جانب السعودية. وهو اعتقاد لمس هؤلاء جديته طوال الوقت. لكن لم تكن الصورة ناصعة بكل تلاوينها، لأن طرفين أساسيين من القوى المسيحية أقصيا عن المشهد. ميشال عون المنفي الى فرنسا، وسمير جعجع الذي قاده تمرده الى السجن. وخطأ السوريين وحلفائهم المحليين، اعتقادهم بأن المسيحيين تعرّضوا لانكسار كبير، فبالغوا كثيراً في لعبة الاحتواء، وهو ما أدى الى انتكاسات كبيرة، قادت جيلاً من المسيحيين، ومعهم قسم من النخب الإسلامية، الى حضن الاعتراض العام.
في القسم الثاني من الحقبة القاسية، الممتدة من العام 2005 الى اليوم، تبدل المشهد كثيراً. دخل الجميع الى اللعبة. وكانت أولى نتائج عودة ميشال عون وسمير جعجع الى صدارة المشهد، انسحاب القيادة السياسية الدينية من المشهد. لكن حشد الشخصيات والناشطين لم يذهبوا جميعاً صوب الثنائي المسيحي، بل هم باشروا الاعتراض على سياساتهما. لكن هذه الأصوات لم تشكل في كل الاستحقاقات الانتخابية من العام 2005 حتى اليوم أي فارق نوعي في التمثيل السياسي. حتى الوصيّ الخارجي الجديد، الممثل بالولايات المتحدة وفرنسا والسعودية، لم يكن بمقدوره ممارسة اللعبة السورية نفسها خلال النصف الأول من الحقبة القاسية. والمشكلة هنا أن الفشل الأميركي - السعودي لا يعود فقط الى قلة خبرتهما أو الى فوقية في التعامل، بل لكون غالبية الاصوات المعترضة لم تقرّ بالوقائع اللبنانية القاسية، وبأن النتائج الفعلية للحرب الأهلية انتهت الى تفوّق القوى الاسلامية. وحتى عودة عون وجعجع لم تكن كافية لإعادة عقارب الساعة الى الخلف. فانتهى الأمر الى أزمة صارت تتفاقم يوماً بعد يوم. ومشكلة التحالف الغربي - الخليجي لم تعد محصورة في عدم القدرة على فرض معادلات جديدة لمواجهة نفوذ المقاومة التي حلت، ولو جزئياً، مكان دمشق كمرجعية للقوى الإسلامية، بل في كون القوى المسيحية نفسها قررت تعديل قواعد اللعبة. واختار العماد عون بناء تحالف وثيق مع حزب الله من جهة، وقبل أن يتجه نحو تطبيع العلاقات مع سوريا، بالتوازي مع عدم الخضوع للرغبات الاميركية والسعودية. كل ذلك دفع هذا التحالف الغربي - الخليجي الى البحث عن وسائل مختلفة للمعارضة.
ليس من مشترك حقيقي بين كل هذه المجموعات سوى عنوان واحد: رفض خيار المقاومة!


في هذه الحالة، عاد الجيش ليكون حصاناً خاصاً، ويرى التحالف وجوب العمل بلا توقف لأجل اعتبار الجيش الطرف القادر على قلب الطاولة متى تطلّب الأمر. لكن الجهد العملاني على الأرض، يحتاج الى أدوات ناشطة. وهنا، كانت حيلة «المجتمع المدني» والمنظمات غير الحكومية، والتي نمت بقوة غير مسبوقة على مدى 15 عاماً، لتشكل اليوم المنصة الثالثة بعد الدولة وحزب الله في الإمساك بقواعد عمل حشد من أبناء الطبقة الوسطى الذين يشكلون عماد الحركة الاعتراضية القائمة اليوم.
مشكلة هذه الجهات تكمن في أساس قيمي. غالبية هذه الجمعيات مشكّلة من أشخاص متعلمين، ومن الذين أنفق أهاليهم الكثير على تعليمهم وتوفير فرص عمل خاصة بهم. لكن المشكلة لم تقتصر على عدم توافر شركات تجارية أو مؤسسات رسمية تستوعب هؤلاء وتوفر لهم الدخل المناسب، بل في كون غياب المظلة الوطنية الجامعة لهذه المجموعات جعل بعضها يقترب من بعض في وسائط العيش وفي المتطلبات الفردية أيضاً. وأبسط مراجعة تتيح التعرف إلى مسار حياة هؤلاء بمعزل عن مركز نشأتهم:
شباب وصبايا يرفضون التعايش مع الواقع الاجتماعي أو التقاليد التي تخص بيئتهم المباشرة، من أهل وأحياء وقرى وبلدات.
شباب وصبايا يرغبون في العيش وفق النموذج الغربي، في ما خصّ آليّة السكن والمأكل والملبس وأماكن السهر وشكل الترفيه ونوع التعليم وأماكن التجمع وطبيعة الاستهلاك.
شباب وصبايا لا يقبلون بمستوى عيش يطابق ما تعيشه بقية اللبنانيين، بل هم يرغبون في ما يعتقدون أنه حق لهم بسبب ما أنفقه أهلهم على تعليمهم وعلى تطويرهم، وهم يعودون من رحلات الخارج وفي بالهم إمكان تطبيق ما عايشوه هناك في لبنان، الأمر الذي أدى الى صدام عنيف بدأ مع قواعدهم الاجتماعية.
لكن المشترك بين جميع هؤلاء، هو أنهم بادروا سريعاً الى تكفير كل محيطهم المباشر. عمدوا الى نبذه والتصرف معه على أنه مجتمع متخلف. وقرروا أن بمقدورهم بناء منظومة عيش مستقلة تخصّهم وحدهم. وجدوا في بعض أحياء بيروت ملاذهم، وفي هذه الأمكنة أقاموا كل البروتوكولات الإضافية للعيش. من شكل المنزل الى محتوياته، الى نوع المقهى والمطعم الى وجهة الترفيه الى نوعية المدارس ووجهات السفر. ولكن المشترك الأقوى، هو البحث عن مصدر التمويل الذي يقيهم شر النظام القائم وشروطه. فهم لا يرفضون السلطة وحدها، بل يرفضون العيش وفق القوانين العامة التقليدية. هم لا يقدرون على التعايش مع مستوى الرواتب والدخل الذي توفره الدولة أو القطاع الخاص كما يعرفه لبنان. ولم يكن أمامهم سوى التطوّع للعمل في خدمة المنظومة العالمية الجديدة التي تسمى «المنظمات غير الحكومية ومجموعات المجتمع المدني».
عند هذا الحد، تحوّل هؤلاء سريعاً الى أدوات معطلة لكل تطوير جدي وطبيعي لبنية الدولة ومؤسساتها. وخياراتهم في طريقة الوصول الى إدارة الدولة تقوم على فكرة أنهم يمثلون فئة اجتماعية أكثر رقيّاً من غيرهم، من نواحٍ عديدة. وهم لا يحتاجون إلى تفويض شعبي كما تقرر الانتخابات في أي دولة، بل يكفيهم ما عندهم من «ترقي» ومن «حصانة وحضانة خارجية» لكي يشكلوا البديل، وهم لا يريدون أكثر من أن يقوم أحد ما بالانقلاب على السلطة وإطاحتها، وتسليمهم البلاد لإدارتها. وفكرتهم عن كل من يناقشهم أنه متخلف ورجعي وخاضع.
عملياً، لا يختلف هؤلاء أبداً عن مجموعات التكفير والهجرة التي عرفناها مطلع تسعينيات القرن الماضي في شمال أفريقيا، حيث قررت مجموعات إسلامية أصولية، أن المجتمع لا يناسبها، وكفّرته وقررت الهجرة نحو أمكنة خاصة بها، ومن هناك باشرت حرب التحرير...
مشكلة مجموعات التكفير والهجرة عندنا أنها لا تمانع الحرب، لكنها لا تريد أن تكون ضمنها. هي أفضل من يحترف الوقوف على التل، ورفع الصوت حيث يمكن، من خلال منصات تملكها وتسيطر عليها قوى التحالف الغربي – الخليجي نفسها. وحتى اليوم، ليس من مشترك حقيقي بين كل هذه المجموعات سوى عنوان واحد: رفض خيار المقاومة!