حدّدت القوى الحاكمة أولويتها. بعد نغمة أن التهريب هو المشكلة، وأن التخلف عن سداد سندات الدين بالدولار خلق الأزمة، وأن الكارثة وقعت بسبب سوء إدارة من هنا أو موقف سياسي من هناك، قررت التصويب على هدف وحيد: رفع الدعم. ولأجل ذلك، قرر حاكم مصرف لبنان رياض سلامة رفع العصا في وجه الجميع، وإذاقة الضعفاء من السكان كل ألوان الذل، عبر بدء «تقنين» الاستيراد. رسم خط سير الحكومة والمجلس النيابي، فامتثلا صاغرَين. اجتماعات متتالية بهدف رفع الدعم، وتصوير هذه الخطوة كما لو أنها المنقذ من الانهيار، وما سيحفظ أموال المودعين في القطاع المصرفي، بعدما بدّد أرباب المصارف أكثر من 80 مليار دولار منها من دون أن يرف لهم جفن. صارت مسألة رفع الدعم الشغل الشاغل لسياسيين ينامون ويصحون وليس على ألسنتهم سوى عبارات شيطنة الدعم.يجري ذلك وفق الإيقاع الذي رسمه سلامة. ويؤدي المجلس النيابي مسرحية متقنة الإخراج، ليوحي كما لو أنه يبحث في بديل للدعم اسمه البطاقة التمويلية ستُمنح لمئات آلاف العائلات، من دون تحديد المبلغ الذي ستحصل عليه كل عائلة، وإذا ما كان بالليرة أو بالدولار، كما من دون الاتفاق على الجهة التي ستؤمّن هذه المبالغ. يتناوب البرلمان ومجلس الوزراء ومصرف لبنان على رمي المسؤولية كلّ عن نفسه، حتى بدا كما لو أن حالة من «الضياع» تسيطر على اجتماعات اللجنة الفرعية المنبثقة عن اللجان النيابية المشتركة المكلفة بدرس مشروع القانون الوارد بالمرسوم 7797 الرامي الى إقرار البطاقة التمويلية. الوزراء المشاركون في الاجتماعات يؤكدون يوماً بعد آخر أن لا رؤية حكومية موحدة للملف. ولأن النواب يرفضون أن يتحمّل البرلمان أي مسؤولية ولو صغيرة في هذا الملف، عبر الإصرار على إلقاء كامل المهام على الحكومة المستقيلة. الترجمة الفعلية لما يحصل هو الاستمرار في تقاذف المسؤولية والتهم بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، من دون أن يأبه أي طرف لتداعيات البدء برفع الدعم أولاً، وثانياً رفع الدعم من دون تأمين أي آلية من آليات الحماية الاجتماعية، وثالثاً رفع الدعم من دون أي خدمات عامة تخفف من كلفة رفع الدعم عن كاهل أبناء الطبقات الأكثر ضعفاً في المجتمع (نقل عام، خدمات طبية...)، ورابعاً رفع الدعم من دون إقرار مشروع البطاقة التمويلية التي تسمح لمحدودي الدخل بشراء جزء ولو يسير من أساسيات الحياة التي ستتضاعف أسعارها. خلاصة الأمر أن «الدولة» قررت ترك المواطنين يتدبرون أمورهم بالتي هي أحسن. ويبدو من مجرى الجلسات أن «قصة» البطاقة طويلة، ومن غير المرجّح أن يُحسم القرار بشأنها قريباً نتيجة تخبّط الوزراء في ما بينهم وسياسة تضييع الوقت التي يتبعها المجلس النيابي للهروب الى الأمام الى أن يحصل الانفجار الكبير.
تربط الآلية المتفق عليها استيرادَ الأدوية وفق السعر الرسمي لصرف الدولار الاميركي، بموافقة مسبقة من مكتب وزير الصحة


في جلسة يوم أمس، أشار النواب الحاضرون الى أن مشروع الحكومة لا يتضمن أي صيغة حول «ترشيد الدعم». وهؤلاء النواب لم يعودوا ينظرون إلى البطاقة كجزء من «شبكة حماية» للسكان، تقيهم شر الارتطام بالقعر بعد تركهم في حالة سقوط حر منذ ما قبل أيلول 2019. على العكس من ذلك، صار أعضاء اللجنة يتعاملون مع مشروع البطاقة كأداة ابتزاز لتحقيق ما يُسمى «ترشيد الدعم»، معتبرين أن المشروعين مترابطان ترابطاً عضوياً.
الجديد يوم أمس كان حضور نائبة رئيس الحكومة زينة عكر الجلسة الى جانب وزراء المال والاقتصاد والشؤون الاجتماعية، فطُلب اليها الرجوع اليوم بصيغة واضحة حول ترشيد الدعم لإكمال النقاش، علماً بأن النواب سبق لهم أن طلبوا من الوزراء الأمر نفسه يوم الجمعة الماضي («الأخبار»، 19 حزيران 2021). فوعدت عكر بالاجتماع باللجنة المكلفة برفع الدعم، على أن يتابع اجتماع اللجنة النيابية اليوم.
خلال الجلسة، وضعت مشكلة أخرى على الطاولة تتعلق بقروض البنك الدولي التي قال البنك إنها إنْ أتت فلن تكون لمصلحة البطاقة بل ستضاف إلى القرض المخصص لبرنامج شبكة الأمان الاجتماعي. كذلك تطرق الحديث الى آلية انتقاء الأسر المستفيدة من البطاقة حيث طُرحت عدة أفكار، أبرزها استثناء العائلات التي لديها مدبرة منزل أجنبية، وتلك معلومة يمكن الحصول عليها من وزارة العمل، واستثناء من يسافر عدة مرات في السنة عبر الاستعانة بداتا الأمن العام. في هذا السياق أيضاً، طلب النواب تحديد آلية واضحة من قبل الحكومة، على اعتبار أن مشروع البطاقة التمويلية المقدّم من قبلها ناقص ولا يتضمن أي تفاصيل، بخلاف اقتراح القانون المقدم من تكتل «لبنان القوي»، على أن المشترك بين مشروع القانون والاقتراح هو فتح اعتماد استثنائي لتمويل البطاقة في موازنة العام 2021 واحتمال خفضة من مليار و235 مليون دولار الى مليار دولار أميركي. وتنتظر اللجنة أن تعود اليها عكر اليوم برؤية واضحة، على أن يبدأ الاجتماع الساعة الحادية عشرة من قبل الظهر.

طلب النواب من نائبة رئيس الحكومة وضع صيغة واضحة وواحدة لترشيد الدعم لأن لا بطاقة من دون ذلك


من ناحية أخرى، أصدر المكتب الإعلامي في رئاسة مجلس الوزراء بياناً ذكر فيه موضوع ترشيد الدعم بما يوحي أنه أنجز مهامه عكس ما يقوله النواب الذين يناقشون موضوع البطاقة قائلاً: «إن الحكومة المستقيلة أنجزت مشروع البطاقة التمويلية، وكذلك برنامج قرض البنك الدولي لمساعدة العائلات المحتاجة، ووضعت صيغاً عديدة لترشيد الدعم تنتظر إقرار البطاقة التمويلية في مجلس النواب لتحديد الصيغة المناسبة». هذه الفقرة تتناقض مع نفي النواب أن يكون ثمة ولو جزء من صيغة لـ«ترشيد الدعم»، بحسب مصادر اللجنة، وأن السبب الرئيسي وراء الطلب من عكر الرجوع بطرح واضح هو «غياب أي تصور حكومي لهذا الموضوع، بل إن الحكومة آثرت فصل الملفين وحذف كل ما يتعلق بترشيد الدعم من مشروعها».
وفي السياق نفسه، علمت «الأخبار» أن وزارة الصحة اتفقت مع مصرف لبنان على آلية لاستمرار الدعم لاستيراد الأدوية والمواد المستخدمة في المختبرات الطبية. وفيما أشارت مصادر معنية إلى أن الاتفاق يقضي بخفض كلفة الدعم من نحو مليار و200 مليون دولار إلى نحو 800 مليون دولار، لفتت مصادر أخرى إلى أن ما اتفق عليه وزير الصحة العامة حمد حسن وحاكم المصرف المركزي يقضي باستمرار الدعم على جميع الأدوية. وقد وعد سلامة بعرض مشروع الاتفاق على المجلس المركزي لمصرف لبنان في جلسته المنعقدة غداً، لنيل موافقته. وتربط هذه الآلية استيراد الأدوية وفق السعر الرسمي لصرف الدولار الاميركي، بموافقة مسبقة من مكتب وزير الصحة.