يندرج المؤتمر الذي نظّمه واستضافه معهد الشرق الأوسط الاميركي حول لبنان، بالتعاون مع صندوق الإغاثة الطارئة في شبكة المصرفيين اللبنانيين الدولية (LIFE) وفريق العمل الاميركي الخاص حول لبنان (American Task Force On Lebanon)، والذي امتد لأسبوعين من أواخر شهر أيار الماضي الى بداية الشهر الجاري، ضمن المساعي الحثيثة التي تبذلها قوى سياسية مختلفة وجماعات ضغط في الولايات المتحدة للتأثير في سياسات إدارة بايدن حيال المنطقة ولبنان. ويبدو أن المخاوف المتزايدة من احتمال تمحور اهتمامات الادارة حول أولوياتها المعلنة الداخلية، السياسية والاقتصادية - الاجتماعية، والدولية، المرتبطة بالتنافس المتصاعد مع روسيا والصين، وما قد يترتب على ذلك من تراجع تركيزها على قضايا الشرق الاوسط، هي المحرك الرئيس لهذه المساعي. واذا كانت الهوية السياسية لشريكي المعهد في هذا المؤتمر واضحة، وكذلك انحيازهما لأفرقاء سياسيين لبنانيين معروفين، فان خلفيات مساهمة مؤسسة «أكاديمية عريقة» كـ«معهد الشرق الاوسط» في حملة دعائية سياسية - اعلامية هي الجديرة بالاهتمام. فهي تقدم نموذجًا جديدًا على قدرة جماعات ضغط ولوبيات عاملة لمصلحة أطراف خارجية، دولة الامارات العربية المتحدة في حالتنا الحاضرة، على توظيف العلاقات الخاصة التي نسجتها مع مراكز «العصف الفكري»، بفضل «سخائها الكبير» معها، إضافة إلى شبكة صلاتها الواسعة في أوساط السياسة والاعمال والاعلام، للتأثير في عملية صياغة السياسة الأميركية تجاه المنطقة. يجري ذلك في سياق ما يصفه بعض المحللين بـ«الانحطاط الاميركي»، أو بتعبير آخر خصخصة السياسة الخارجية لواشنطن، وهو ناجم عن تعاظم وزن المصالح الخاصة المشتركة لقطاعات من النخب السياسية والاقتصادية الاميركية ولدول خارجية عند تعريف المصالح الوطنية الحيوية للبلاد وتحديد السياسات الكفيلة بخدمتها، رغم كون هاتين المهمتين من الصلاحيات السيادية للدولة من حيث المبدأ. اللافت أيضًا هو أن «الحبل السري» الذي جمع بين ترامب وعائلته وعدد من أقطاب ادارته، والعائلة الحاكمة في أبو ظبي، والدعم المتعدد الاشكال الذي وفّرته الاخيرة له أملاً بتأمين الشروط الملائمة لاعادة انتخابه، لم تكن لهما التداعيات المنتظرة على موقف ادارة بايدن منها لأنها عرفت، نظرا إلى «كرمها اللامحدود»، كيفية كسب ود أطراف مؤثرين في الحزب الديموقراطي، خصوصاً أولئك النافذين في المؤسسات السياسية والاقتصادية والبحثية والاعلامية.«معهد الشرق الأوسط»، إحدى الجهات المنظمة للمؤتمر حول لبنان، والمؤسسة الأكاديمية «العريقة»، وغير الحزبية، وهذا معطى مهم، تأسس سنة 1946 لدراسة الشرق الأوسط، وهو إحدى الجهات التي تحظى برعاية اماراتية خاصة. ففي 2016 وحدها، وبحسب الدراسة التي أعدّها الباحث بن فريمان لمركز السياسة الدولية بعنوان «اللوبي الاماراتي: كيف تفوز الامارات في واشنطن»، في اطار مبادرة الشفافية حول النفوذ الخارجي، حصل المعهد من حكام أبو ظبي على 20 مليون دولار. تشمل هذه الرعاية مؤسسات ومراكز بحثية أخرى تعنى بالسياسة الخارجية، كـ«مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» و«المعهد من أجل التقدم الاميركي» و«معهد واشنطن لدراسات الشرق الادنى» ومعهد «أميركان أنتربرايز» ومعهد «أسبين» والـ«أتلانتيك كاونسيل» و«مركز بلفير» في جامعة هارفارد و«مؤسسة بروكنغز» و«وقفية كارنيغي للسلم العالمي» و«مؤسسة راند»، ضمن مسعى للتأثير في «البيئة المعرفية السائدة بين صناع السياسة الاميركيين»، برأي الباحث كولين باورز في دراسته اللافتة «استمالة واشنطن... كيف تستغل أبو ظبي الانحطاط السياسي»، المنشورة على موقع «أبحاث نوريا». وبين 2014 و2018، دفعت الامارات 15,4 مليون دولار لثمانية من المراكز المذكورة لقاء خدماتها. ويشير باورز الى أن تعريف مراكز الدراسات على أنها «مؤسسات غير ربحية» في القانون الاميركي لا يجبر هذه الاخيرة على إطلاع مصلحة الضرائب على مصادر تمويلها الخاصة، ما يعني أن الأرقام الواردة في دراسته، وفي تلك التي أعدها بن فريمان، عن التمويل الاماراتي لهذه المراكز، ليست سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد.
يتلخص دور هذه المراكز في انتاج وترويج خطاب ملائم للمصالح المشتركة لأبو ظبي والكتل الوازنة في الدولة، خاصةً المجمع الصناعي - العسكري الذي تحتل الأولى موقعاً بارزاً بين زبائنه، وعالم السياسة والاعمال، وتسخيف التحليلات والمواقف المختلفة و/أو المتناقضة مع فرضياته الرئيسية. وبما أن «السخاء الاماراتي» يشمل أيضًا صحافيين عاملين في وسائل اعلام رئيسية، ومرشحين للانتخابات التشريعية ومنظمات «أهلية غير ربحية»، وبينها بعض المنظمات الصهيونية الاساسية كاللجنة اليهودية الاميركية ورابطة مكافحة التمييز، فإن جميع هؤلاء يسهمون في نشر وترويج أطروحات ومقولات خطاب الدعاية الاماراتي المشار اليه. من الطبيعي أن تحاول جميع هذه الاطراف إظهار اتساق خطابها ومواقفها مع القيم والمصالح الوطنية العليا للولايات المتحدة، لأن ذلك أحد شروط نجاحها في أداء المهمة الموكلة إليها من قبل المشغلين. غير أن طغيان المصالح والحسابات الخاصة لمراكز الدراسات وللعاملين فيها لا يغيب عن نظر باورز: «لقد أثبت علماء الاجتماع مراراً وتكراراً أن البقاء وإعادة إنتاج شروط الاستمرارية يشكلان اعتبارين حيويين لأي مؤسسة، بما فيها مراكز الدراسات». النية المعلنة لإدارة بايدن بالانسحاب الجزئي والتدريجي من الشرق الأوسط تثير درجة من الذعر بين حلفائها الخليجيين والاسرائيليين ستدفعهم إلى تنظيم العديد من الفعاليات والانشطة الشبيهة بالمؤتمر الاخير حول لبنان، لمحاولة ثنيها عن ذلك، ولن يجدوا صعوبة تذكر لتجنيد المؤسسات الاكاديمية «المحترمة والعريقة» لتنظيمها أو المشاركة فيها في زمن الانحطاط الاميركي.


اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا