يصعب العثور، في التاريخ الحديث، على نموذج شبيه بما يجري في لبنان. قلّما تعرّض شعب لعمليّة نهب ممنهجة، بلا حرب عسكرية، كتلك التي تعرّض لها، ولا يزال، الشعب اللبناني. هذا شعب تُشنّ ضدّه حرب اقتصادية، من قبل أصحاب الثروات فيه (محتكرون، سياسيون، أصحاب مصارف، مؤسسات دينية، مؤسسات إعلامية...)، من دون أن يجد من يدافع عنه. ومن بيدهم الأمر، لا يحرّكون ساكناً لوقف تلك الحرب، أو لتخفيف آثارها، رغم أن البلاد دخلت مرحلة الدموع منذ إصدار القرار الأميركي بإعدام مصرف «جمّال ترست بنك» في آب 2019، وها هي تتّجه، بدفع من «أولي الأمر» أنفسهم، نحو مرحلة الدماء! لم يحرّكوا ساكناً منذ عام 2016، التاريخ الرسمي لبدء ظهور نتائج الانهيار. ومنذ ذلك الحين، فوّضوا أمرهم إلى حاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، فقرر المعالجة بالهندسات المالية، وما شاكل من إجراءات لم تؤدِّ سوى إلى تسارع الانحدار نحو الهاوية.البلاد بحاجة إلى إعلان حالة طوارئ اقتصادية ومالية ونقدية وصحية وبيئية... لكن القوى السياسية قررت خوض معاركها كما لو أنها في بلجيكا عامَي 2010 و2011 (في ذلك الحين، احتاجت المملكة الأوروبية إلى 535 يوماً لتأليف حكومة)، لا في لبنان المنهار تماماً عام 2021. في بيروت، يصف أهل السلطة صراعاتهم، زوراً، بـ«السياسية». فيما هم، منذ عامين، لم يختلفوا على مشروع واحد يحمل في طيّاته وعداً بحلّ أو بتخفيف أثر الدمار الاقتصادي والنقدي. وحدها خطة الإنقاذ المالي حفّزتهم على الاجتماع لقتلها. المتصارعون اليوم، وعلى رأسهم حركة أمل والتيار الوطني الحر وتيار المستقبل، توافقوا في العام الماضي على تدمير الفرصة الوحيدة التي كان من المحتمل أن تفتح باباً لوقف حالة الانهيار.
وزيرة العدل تطلب اجتماع مجلس الوزراء لبتّ مصير «المشتبه فيه» رياض سلامة


صراع اليوم نال نصيبه من السخرية أمس بين اللبنانيين. أهل السلطة يهدّدون الشعب بالإضراب والتحرك في الشارع. لكن هذا التحرك، الذي انضمّت إليه جمعية مصارف لبنان، يحمل في طياته ما لا يحتمل السخرية، نظراً إلى جدّيته المفرطة. بعض الأحداث التي جرت بعيداً عن الإعلام في الأيام الماضية، تسمح بالاستنتاج بأن تحرّك «قوى السلطة» في الشارع اليوم، ليس انعكاساً للصراع على المقاعد الوزارية حصراً، وبأن المعركة الحالية تدور أيضاً حول شخص رياض سلامة. ليس في ذلك «هوَس» بالحاكم الذي لا يشبه، هو الآخر، أيّ حاكم لمصرف مركزي حول العالم. هو الوحيد بين أقرانه الملاحَق بشبهة اختلاس أموال من مصرف الدولة، ولا يزال «على رأس عمله». وقبل أيام، بعثت وزيرة العدل، ماري كلود نجم، بكتاب إلى رئاسة الحكومة، تقول فيه إن سلامة مشتبه فيه بتحقيقات تجريها النيابة العامة التمييزية في لبنان، فيما هو مشتبه فيه في سويسرا ومُلاحق في فرنسا، وفُتِحت بشأن أعماله تحقيقات في دول أخرى. وأشارت نجم إلى أن أموال سلامة وممتلكاته مجمّدة في عدد من دول العالم، سواء بطلب من سلطاتها القضائية، أو بطلب من النيابة العامة اللبنانية.
واقترحت نجم على رئاسة الحكومة عقد جلسة لمجلس الوزراء، من أجل بتّ مصير سلامة. مصادر السرايا الحكومية قالت إن الرئيس حسان دياب أرسل كتاب نجم إلى كل من وزير المالية والمدعي العام التمييزي لاستطلاع رأيهما. ورأت المصادر أن رسالة وزيرة العدل «استعراضية»، وخاصة أنها «تتضمّن إشارة إلى أنّ الشبهات بحق الحاكم لم تثبت بعد كونها لم تصدر بحكم محكمة»، وأنها تهدف إلى «إحراج رئيس الحكومة واستدراجه إلى عقد جلسة لمجلس الوزراء، من باب النكاية بالرئيس سعد الحريري». وتوقّعت مصادر سياسية رفيعة المستوى ألّا يوافق دياب على انعقاد مجلس الوزراء.
بالتزامن مع ذلك، كانت مصادر قصر بعبدا تقول إن رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، تلقى «نصائح» من شركاء له في السلطة، «بعدم الضغط على سلامة، لأن استمرار فتح ملفات له سيؤدي إلى انهيار ما تبقى في البلد».
وإلى جانب ما سبق، كان وسطاء ينطقون في العادة باسم حاكم مصرف لبنان، يقولون بوضوح لمراجع رسمية إن استمرار ملاحقته، وتحديداً من قبل النيابة العامة التمييزية، «سيؤدي إلى احتراق البلد».
هذه الوقائع موجودة بقوة في خلفية التحرك «الثوري» للقوى التي تتقاسم مسؤولية الانهيار ومسؤولية عدم مواجهة الأزمة. الدفاع عن رياض سلامة كان، ولا يزال، بالنسبة إلى الكثير من أهل الحُكم، أولوية الأولويات.