دفع 400 دولار نقداً للحسابات بالدولار، يُعدّ آخر تجارب «مُختبر رياض سلامة». قرارٌ تخديري للمودعين، سوّق له سلامة كما لو أنّه الخلاص المُنتظر، فيُحاول إخفاء ما يتضمّن من «خوازيق». فخلف هذه الستارة، أتمّ سلامة مع رئيس مجلس النواب نبيه برّي مقايضة تطيير مشروع القيود على رأس المال (كابيتال كونترول)، وخضع للمصارف عبر تحرير أكثر من مليار دولار لها عبر تخفيض نسبة التوظيفات الإلزامية (ما يسمّيه «الاحتياطي الإلزامي») بالدولار، وأعطى لنفسه مُبرّراً لوقف دعم الاستيراد نهائياً على اعتبار أنّه أعاد الدولارات لأصحابها... من أصل أكثر من 104 مليارات دولار، تمخّض جبل مصرف لبنان فولد أقل من مليارين ونصف مليار دولار، بالتقسيط. قرار سلامة مؤشّر جديد إلى أنّ المنظومة التي سقطت مُستعدة لجرّ كلّ السكان معها نحو الهاوية، حتى لا تتخذ قراراً واحداً يمسّ بامتيازاتها
تطيير قانون القيود على رأس المال الـ(كابيتال كونترول) في مقابل إعطاء 400 دولار أميركي نقداً لأصحاب الودائع المصرفية بالعملات الأجنبية. هذا هو لُبّ المقايضة التي عُقدت بين رئيس مجلس النواب نبيه برّي وحاكم البنك المركزي رياض سلامة. وبناءً على هذا الاتفاق، اجتمع المجلس المركزي لمصرف لبنان «مُبشّراً» بدفع 400 دولار أميركي نقداً، و400 دولار أخرى تُسدّد بالليرة اللبنانية على أساس سعر منصّة «صيرفة»، المُحدّدة حالياً بـ 12 ألف ليرة لكلّ دولار.
اقتراح قانون الـ«كابيتال كونترول»، الذي تبحثه لجنة المال والموازنة ــــ التي حوّلها رئيسها النائب إبراهيم كنعان، بالتعاون مع جزء من أعضائها، إلى حامية مصالح رأس المال منذ أن أسقطت خطة حكومة حسان دياب للتعافي المالي ــــ كان يخضع لعملية تفريغ من مضمونه. حتى لو ارتفعت أصواتٌ مصرفية تعترض على بنود مُعينة فيه، تبقى هذه مسألة تُحلّ بمُجرّد تعديل البنود الخلافية. ولكنّ ما يُبحث ينسف أصل الغاية من وجود قيود على رأس المال، ويتضمن الكثير من الاستثناءات، كما لو أنّ الغاية سنّ قانونٍ لـ«تشريع التحويلات» لا لوضع قيود عليها. على الرغم من ذلك، أراد سلامة تعطيل إقرار القانون، لأنّه يُقوّض صلاحياته الواسعة ويحدّ من استنسابيته في التعامل مع المودعين. انطلاقاً من هنا، عُقد الاتفاق بينه وبين برّي، ليلتفّ على اقتراح الـ«كابيتال كونترول» النيابي، ويصبّ في غير مصلحة المودعين، وعامة الناس التي لا تملك حسابات مصرفية. مع الإشارة إلى أنّها ليست المرّة الأولى التي يُعطّل فيها برّي إقرار الـ«كابيتال كونترول».
المبلغ الشهري: 400 دولار نقداً + ما يعادل 200 دولار بالليرة نقداً + ما يعادل 200 دولار بالليرة ببطاقات الشراء المصرفية


عدم إقرار قانون القيود على رأس المال «جريمة» اجتماعية ومالية واقتصادية، يعلم مرتكبوها أنّ مُعالجة أي أزمة مالية ونقدية واقتصادية، وخاصة كالتي يمرّ بها لبنان، مفتاحها الرئيسي هو إقرار الـ«كابيتال كونترول»، وهذا ما كان يجب أن يتمّ مع إقفال المصارف في تشرين الأول 2019، عوض السماح بتحويل الثروات المالية إلى الخارج وتعميق حدّة الأزمة. مرّة جديدة، تخضع السلطات الرسمية لـ«الصانع الحصري للسياسات» (على حدّ وصف البنك الدولي)، رياض سلامة، الخاضع بدوره لقوة رأس المال المالي.
مع ترك القرارات المصيرية بيد سلامة، لم تتمّ التضحية بقانون الـ«كابيتال كونترول» حصراً، بل سُمِح له بإطلاق الخطوات التنفيذية لوقف «دعم» استيراد المواد الرئيسية، والتي تتم حالياً وفق سعر الصرف الرسمي لليرة (1515 ليرة للدولار الواحد). فسلامة خطّط لأن تحلّ رشوة الـ 400 دولار أميركي، مكان البطاقات والمساعدات المُفترض توزيعها للمُتضررين من رفع الدعم. لكنه يعتبر أنّه بعد توزيع هذا المبلغ على جزء قليل من السكان، يُمكنه التوقّف نهائياً عن فتح الاعتمادات لاستيراد البنزين والمازوت والدواء والقمح... يتجاهل أن الفئات الأكثر ضعفاً في المجتمع لا تملك حسابات بالدولار لتسحب منها على مدى عام 400 دولار شهرياً، وأن غالبية العمال والأجراء والمستخدمين يتقاضون رواتبهم بالليرة التي تتدهور قيمتها يوماً بعد آخر. لكن سلامة تصرّف كما لو أنه يختصر المُجتمع بـ 800 ألف حساب مصرفي يُريد أن «يُصفّيها».
غياب سلطة الدولة يسمح بتمادي «المُشتبه فيه بتبييض واختلاس أموال والاستغلال الوظيفي»، وإصداره بيانات وتعاميم، كما لو أنّنا بتنا نعيش في «مُختبر سلامة المالي». في هذا الإطار، أتى بيان مصرف لبنان أمس ليُبلغ عن اتخاذ قرار «يُلزم المصارف بتسديد 400 دولار فريش، إضافةً إلى ما يوازيها بالليرة اللبنانية للحسابات التي كانت قائمة بتاريخ تشرين الأول 2019 وكما أصبحت في آذار 2021». مجموعة ملاحظات تُسجّل على البيان، كمدّة صلاحية القرار التي تنتهي بعد عام واحدٍ، يكون خلالها مصرف لبنان قد تخلّص من أرصدة حسابات 800 ألف عميل «أي ما يُقارب 70% من حسابات المودعين، تُسدّد كامل أرصدتهم». قبل سنوات، أطلق مصرف «لبنان والمهجر» حملة دعائية مُموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية («USAID»)، لتشجيع سكان الأرياف على فتح حسابات مصرفية. ودارت كلّ النظرية المالية حول «الشمول المالي»، أي أن تتم كلّ عمليات الناس عبر المصارف. لذلك، من اللافت أن تعتبر السلطة النقدية حالياً أنّ إقفال الحسابات هو «إنجاز»، وتتباهى بزيادة الكتلة النقدية بالليرة «ما بين 26 و27 تريليون ليرة لبنانية وذلك على سنة»، فيما هي تتخذ إجراءات منذ أشهر بهدف امتصاص الكتلة النقدية من بين أيدي السكان لأجل خفض قدرتهم على الاستهلاك، وبالتالي، خفض الاستيراد. السلطة الناظمة للقطاع المصرفي تتباهى بإعلان إقفال 800 ألف حساب، في ما يعني التوجّه لإخراج من يملكون ودائع بقيمة 9600 دولار وما دون من السوق، يُضافون إلى قرابة مليون حساب أُقفلت نتيجة سحبهم أموالهم وفق التعميمين 148 و151، فلا يبقى إلا حسابات قليلة داخل المصارف. هذه تصرفات لا يقوم بها إلا من اتّخذ قراراً بالتصفية والخروج من السوق، لا من يريد إعادة إطلاق القطاع المصرفي المفلس.

التزم البنك المركزي للمصارف بأن يكون الدفع لمدّة سنة فقط


قرار المجلس المركزي لمصرف لبنان (الذي ينفّذ حصراً ما يقرره سلامة من دون أي نقاش ذي تأثير) لم يمرّ من دون تنازل الحاكم لجمعية مصارف لبنان، التي كانت قد وجّهت له كتاباً في 3 حزيران تشرح فيه أنّها «غير قادرة على توفير أي مبالغ نقدية بالعملة الأجنبية مهما تدنّت قيمتها، فسيولة المصارف لدى المراسلين ما زالت سلبية بما يفوق المليار دولار»، مُعتبرةً أنّ أي تمويل لأي سحوبات «لا يُمكن توفيره إلا من خلال تخفيض معدّل الاحتياطي الإلزامي». أولاً، تقول المصارف لرياض سلامة إنّه كذّاب حين أعلن نجاح التعميم 154 وإتمام المصارف عملية تكوين سيولة خارجية لدى المصارف المراسلة بـ 3%. ثانياً، تُعلن تمرّدها على قرارات السلطة النقدية التي تحكم عملها بموجب قانون النقد والتسليف. رغم ذلك، قرّر مسايرتها عبر إلغاء مشروعه لردّ الودائع بالدولار بما يصل إلى 50 ألف دولار (مُقسّمة بالتساوي بين الدولار الأميركي والليرة اللبنانية) بعدما رفضت تنفيذه، واستبداله بـ«بونبونة» الـ 800 دولار شهرياً (مقسمة بالتساوي بين الدولار الأميركي والليرة اللبنانية، على أن يكون المبلغ الذي سيحصل عليه المودع بالليرة مناصفة بين النقدي وبطاقات الشراء المصرفية)، شرط أن لا يتخطى المبلغ السنوي الـ 4800 دولار لكلّ عميل.
حين طُلب من مصرف لبنان الاستمرار بدعم الاستيراد، طلب تغطية قانونية تُجيز له «المسّ» بما يسمّيه «الاحتياطي الإلزامي»، لكنّه أمس تخطّى هذا الشرط، خاضعاً للمصارف بتخفيض الاحتياطي، حتّى تقبل أن تُشارك في دفع نصف قيمة الـ 400 دولار، على أن يتحمّل مصرف لبنان النصف الآخر. فقد قرر «المركزي» خفض نسبة الاحتياطي نقطة واحدة، من 15 في المئة إلى 14 في المئة، ليُحرّر (استناداً إلى أرقام مصرف لبنان) أكثر من مليار دولار للبنوك، من دون أن يوضح البيان إذا كانت ستُعطى للمصارف بقصد تمويل نصف الـ 400 دولار، أو يُقرضها إيّاها مصرف لبنان فتستخدمها كما يحلو لها، مثلاً لإطفاء «التزامات أخرى بالعملة الأجنبية ومنها تلك المدرجة خارج ميزانيات المصارف»، كما جاء في كتاب جمعية المصارف. وبناءً على طلب الأخيرة، التزم البنك المركزي بأن يكون الدفع لمدّة سنة فقط، مع احتمال بأن يتوقّف العمل بهذا القرار أيضاً بعد أسابيع من إطلاقه في حال عدم استجابة المصارف. وقد أطلقت أمس شرارة تمرّد إضافية، مع إعلانها «استعدادها لبحث مندرجات التعميم بإيجابية»، موحيةً بأنّها لم تحسم بعد موافقتها عليه.
أخّر رياض سلامة إطلاق منصّة «صيرفة» أسابيع عديدة، لاعتباره أنّ نجاحها مُرتبط بضخّ الدولارات بين الناس. حضّر مشروع ردّ 25 ألف دولار كحدّ أقصى لحسابات العملات الأجنبية، حتى يكون دعامته في إطلاق «صيرفة»، قبل أن تُحبطه المصارف، ويُستبدل بالـ 400 دولار. وقد سُوّق لـ«صيرفة» على أنّها ستُساهم في لجم انهيار الليرة، مع تعهّد سلامة بخفض سعر الدولار إلى ما دون الـ 10 آلاف. ولكن، صدر أمس أيضاً عن «المركزي» بيان أنّ المصارف ستبيع الدولار على «صيرفة» بـ 12120 ليرة للدولار، وأنّ مُجمل عمليات «هذا الأسبوع هو 10 ملايين دولار أميركي بمعدّل 12.200 ليرة للدولار». في الوقت الذي كان فيه سعر الدولار في السوق الحرّة يتجاوز الـ 13 ألف ليرة! مجدداً، أهلاً بكم في «مختبر رياض سلامة»، الذي تعامل مع عموم سكّان لبنان كفئران تجارب.