تشكل إيران محور مخاوف السعودية وهواجسها؛ هذا مثال حيّ على الأخطاء الاستراتيجية التي تُرتَكَب بسبب التعصّب المذهبي؛ ففي الحقيقة أن التهديد الفعلي للسعودية مصدره دولة أخرى هي... تركيا. إيران دولة إقليمية كبرى بمختلف المقاييس؛ تستند إلى كتلة قومية عميقة الجذور الحضارية، وتلحمها أيديولوجية التشيّع الخاصة بها، وتملك قدرات دفاعية يُحسَب حسابها، وهي في طريقها الى اكتساب الاعتراف الدولي بحقها في استخدام الطاقة النووية لأهداف سلمية.
ولهذا المشروع أهمية اقتصادية نوعية: تحرير حجم أكبر من الطاقة الأحفورية للتصدير، وتلافي مخاطر نفادها، وتطوير قاعدة صناعية مرشّحة لنمو جدي بالإفادة من منجزات التصنيع الحربي. غير أن إيران محاصرة 3 مرات؛ الحصار الغربي الذي يوشك على التفكك ــــ ولكن من دون أفق واضح حول مستوى الاندماج المسموح به للإيرانيين في النظام الدولي ــــ والحصار الإقليمي الناجم عن كونها دولة شيعية في بحر سنّي، والحصار الداخلي الذي يعرقل الديموقراطية الاجتماعية بالجمود الأيديولوجي.
تطمح إيران إلى التمدد السياسي الإقليمي، ولكنها، بعكس الأنظمة الشيوعية والقومية اليسارية، ليس لها حظ في التمدّد الأيديولوجي ــــ المذهبي؛ فالشيعة في المشرق العربي والجزيرة، جزر ديموغرافية مكتظة بالتعدد الاجتهاديّ والمرجعيّ والثقافيّ والمحليّ والقوميّ؛ والخيط الرئيسي الذي يجمع هذه الجزر هو العروبة التي بتراجعها يبرز المذهبي كإطار فضفاض، سياسي أكثر مما هو ديني. المنافسة، من جهة إيران، سياسية لا مذهبية؛ فهي تنتصر لقضية فلسطين. ولن أدخل، هنا، في سجال حول الدوافع؛ فالمهم أن فلسطين هي ثابت في السياسة الإيرانية، وكذلك، فهي تقف مع مظلوميات شيعية (البحرين) وسنية (اليمن الجنوبي)، وتدافع عن دولة قومية ـ علمانية (سوريا).
بالمقابل، تخوض السعودية حرباً مذهبية وضعتها في تناقضات عميقة؛ فهي تدعم الجيش المصري ضد الإخوان والجهاديين، وتفعل العكس مع الجيش السوري؛ كما أن تركيزها على معاداة إيران تقذف بها إلى الأحضان الإسرائيلية، أقلّه على قاعدة عدوّ عدوّي صديقي. وهي، بذلك، تخسر صدقيّتها ونفوذها، وتمنح الإيرانيين، نقاطا في التفوق السياسي والأخلاقي.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية تحتاج إلى اعتراف سني صريح يكسر عنها الحصار الإقليمي. وتظل أولويتها في الحصول على اعتراف كذاك، تتمثل في السعودية؛ لكن تعنّت الأخيرة اللاعقلاني، يدفع الإيرانيين إلى التمسّك بأذيال الإخوان المسلمين... الذين تعتبرهم السعودية، تنظيماً معادياً وأداة بأيدي السياسة القَطرية التي تتحدى الرياض.
في الخلاصة الأولى، أنه يمكن للسعودية أن تطمئنّ لعلاقات حوار معمقة مع الإيرانيين؛ فالتوازن في القوى حاصل فعلاً بين النووي من جهة، ومكة المكرمة من جهة أخرى. وعلى هذه الخلفية، يمكن للثنائي الإيراني ــــ السعودي إجراء تسويات إيجابية عديدة: العراق وسوريا واليمن والبحرين، كما في مجالات الأمن والدفاع. الأبلغ أن هذا الثنائي يستطيع أن يجعل من الإخوان المسلمين في خبر كان؛ كما يمكنه التصدي للظاهرة الإرهابية، إذا كان السعوديون جادين في التخلي عن الإرهاب كأداة في السياسة الخارجية.
العدوّ الفعلي للسعودية... هو تركيا؛ فهذه الدولة المركّبة لا تستند إلى كتلة قومية متراصّة، وإنما إلى تجمع شتيت من الأصول القومية والأديان والمذاهب والاتنيات؛ ولذلك، فالدولة التركية الأتاتوركية اختارت رابطاً أيديولوجياً جامعاً يلحمها هو العلمانية. ولكن مع انزياحها إلى رابط ديني مذهبي يقوم على التحشيد السنّي السياسي الإخواني تتجه نحو صراع مركّب، داخلي وخارجي. ليس أمام تركيا، إذاً، سوى أن تنافس السعودية على موقعها القيادي في العالم السنّي. وإذا كان نطاق التحرك الإيراني في جزر شيعية؛ فإن نطاق التحرك التركي هو في بحر من السُّنّة. ولكي تفرض تركيا الأردوغانية هيمنتها على هذا البحر، فهي مضطرة إلى استيعاب كل موجاته من الليبرالية الاسلامية إلى الإخوان إلى مجاهدي القاعدة، وما بينهما. والاستراتيجية التركية لقيادة العالم السنّي ملزوزة إلى الصدام بقوتين عربيتين سنيتين: مصر، حيث يدعم أردوغان، الإخوان والإرهاب ضد الدولة المصرية واستقرارها وقدرتها على استعادة مكانتها؛ والسعودية التي لا يكتفي حكام أنقرة بمناكفتها، عبر الحليف القَطري، وإنما يسعون إلى بناء وتحريك شبكات معادية لها، مما يتوفر لديهم من إخوان وإرهابيين.
تتجلى اللاعقلانية السعودية في أسوأ صورها من خلال اصرارها على اسقاط النظام السوري؛ فلا تدرك الرياض أن هذا النظام، بتركيبته الاجتماعية السياسية المعقّدة، عصيٌ على التبعية للإيرانيين أو سواهم؛ بالمقابل، فإن اسقاطه سيقدم سوريا على طبق من ذهب للتوسع التركي واجتياح العالم العربي ومحاصرة السعودية بالذات... من خلال الحدود الأردنية. استمرار الفوضى في جنوب سوريا، سيؤدي إلى انتقال نشاط الإرهابيين والمهرّبين ونقل السلاح والمخدرات الخ إلى شمالي وشمالي شرقيّ الأردن، ما يعني التمدد السهل نحو السعودية؛ لا عقلانية الرياض تتبدى، مرة أخرى، هنا بالذات، سواء من خلال الضغط على عمّان للإبقاء على حدودها غير الشرعية مفتوحة مع سوريا أم من خلال ابتزاز الأردنيين، سياسياً، بمساعدات لا تسمن ولا تغني من جوع.