لا يزال اقتراح قانون استرداد الأموال المحوّلة إلى الخارج مكانه. لا تقدّم في مساره إلا لناحية التأكيد أنّ أيّ أمل مرتجى منه لاستعادة بعض الأموال المهرّبة لن يكون ممكناً في ظل وجود الطبقة الحاكمة، مالياً وسياسياً. تلك هي نفسها التي تمكّنت من تحويل أموالها وحرمت باقي المودعين هذا الحق لا يُتوقع منها أن تُشرّع قانوناً ضد مصلحتها! يكفي أن رياض سلامة نفسه، الذي يعطيه القانون، بحكم ترؤّسه هيئة التحقيق الخاصة، حقّ التنفيذ، متّهم من القضاء الغربي بتهريب أمواله. ولذلك، فإن المقاربة التي تضع حرية الفرد والاقتصاد الحر عائقاً أمام تجريم من استغل موقعه ونفوذه لتهريب أمواله، لا تهتم في المقابل لكون هذه العملية تخالف الانتظام العام وتضرب مبدأ العدالة
كان يفترض أن يكون اقتراح القانون المتعلّق باسترداد الأموال المحوّلة إلى الخارج بعد ١٧ تشرين الأول بنداً أول على جدول أعمال لجنة المال التي اجتمعت أول من أمس، على ما تم التأكيد عليه في اجتماع الأسبوع الماضي. لكن اقتراحاً نزل بالباراشوت حجز الموقع الأول في مناقشات اللجنة أمس هو الاقتراح المقدّم من النائب أيّوب حميّد وينص على «إنشاء صندوق تعويضات للمزارعين عن أضرار الكوارث الطبيعية». العنوان لا يمكن رفضه من قبل أي من النواب، لكن تفاصيل الاقتراح أظهرت وجود ثغرات كبيرة فيه حتّمت على رئيس اللجنة ابراهيم كنعان تشكيل لجنة فرعية لإعادة صياغته خلال مدة شهر، مشيراً إلى وجود «ملاحظات أساسية حول تكوينه وتمويله وفعاليته بالتعويض».
بالعودة إلى اقتراح استرداد الأموال المحوّلة بعد 17 تشرين 2019، فإن أحداً لا يعرف متى ستقرّه اللجنة. للتذكير، الرئيس نبيه بري كان قد أحال الاقتراح على اللجان المشتركة، في جلسة ٢١ كانون الأول الماضي، على أن يُنجز خلال ١٥ يوماً. مرّت الأيام والأشهر من دون أي تقدّم ملحوظ. النتيجة أنه حتى اليوم لا موعد محدداً لإنجازه في اللجان، بعدما تبين وجود تباينات كبيرة بشأنه، ووجود شكوك بشأن فائدته في استرداد الأموال فعلاً. أضف إلى أن البعض اعتبره اقتراحاً شعبوياً غير قابل للتنفيذ أريد منه تلبية مطلب شعبي بطريقة مجتزأة.
لا تختلف جلسة أمس عن الجلسات التي عقدت قبلاً، لناحية المضمون. لا يزال النقاش في المبدأ. هل يكفل الدستور حق التحويل أم لا؟ وإن كان يكفل ذلك، فكيف يتم التعامل مع الاستنسابية التي واجهت هذه العملية، بما سمح للنافذين وأصحاب المصارف ومديريها ومجالس إدارتها بتحويل أموالهم وحرمان باقي المودعين هذه «النعمة»؟
ثلاث مداخلات أساسية شهدتها جلسة أمس.
سلامة طمأن المودعين على أموالهم وهرّب أمواله!


مداخلة محامي جمعية المصارف أكرم عازوري، الذي ركز على أن التشريع على مستوى الاتفاقات الدولية والدستور وقانون العقوبات يرتكز على عدم إمكانية تجريم أي عمل بمفعول رجعي، بمعنى أنه إذا لم يكن تحويل الأموال جرماً عندما أجري، فلا يمكن تجريمه لاحقاً.
المداخلة التي قدمها مندوب نقابة المحامين المحامي عبدو غصوب تطرق فيها إلى المحاذير القانونية لرجعية العقوبات. لكنه أسهب بالتأكيد أن استهداف المحامين وفقاً لمعيار هوية الموكل هو أخطر ما يمكن أن يواجه مهنة المحاماة (ينص الاقتراح على شمول محامي المصارف بمفاعيل القانون).
المطالعة التي قدّمها ممثل وزارة العدل جاد الهاشم، واعتبر فيها أن مفهوم العدالة يفوق بأهميته مفهوم الحرية الفردية والاقتصاد الحر، وأن ما حصل من تحويلات يخلّ بمفهوم العدالة وبمبدأ الانتظام العام.
أما النواب، فاعتبروا بأغلبهم أن القانون غير قابل للتطبيق، على اعتبار أنه كيف يمكن إلزام المودعين باسترداد الأموال التي تفوق قيمتها ٥٠ ألف دولار التي حوّلوها بعد ١٧ تشرين الأول، فيما لم يكن فعلهم يشكّل أيّ جرم حينها؟ وكيف يمكن التعامل مع المودع الذي حوّل ١٠٠ ألف دولار على سبيل المثال، ثم استعملها في الخارج؟
ولذلك، ذهب النائب جميل السيد إلى ضرورة التركيز على استرداد الأموال المتأتية من الفساد، مقترحاً مجموعة من التعديلات على الفئة التي يطالها القانون.
الاقتراح ينص على «إلزام جميع مساهمي المصارف من الأشخاص الطبيعيين والمعنويين وأصحاب الحقوق الاقتصادية الحائزين ما لا يقل عن 5% من رساميل المصارف، كما محامي المصارف والمديرين التنفيذيين فيها، وجميع الأشخاص الذين قاموا أو يقومون بخدمة عامة وتقاضوا مالاً عاماً بصفتهم تلك، بإعادة جميع الأموال النقدية والمحافظ المالية المحوّلة منهم الى خارج لبنان بعد تاريخ 17/10/2019 والتي يفوق مجموع قيمها ما يوازي مبلغ 50 ألف دولار أميركي خلال مهلة أقصاها ثلاثون يوماً، اعتباراً من تاريخ نفاذ هذا القانون». لكن السيد دعا في اقتراحه إلى أن يشمل القانون، بالتساوي مع المصارف الخاصة، مديري المصارف العامة، أي مصرف لبنان وبنك التمويل. كما دعا إلى عدم الاكتفاء بفترة ما بعد ١٧ تشرين، على اعتبار أن التحويلات المشبوهة كانت تتم قبل ذلك بفترة طويلة وإن تبقى الأولوية لمن حوّل بعد ذلك التاريخ. كما دعا إلى عدم الاكتفاء بالتحويلات، بل إضافة السحوبات النقدية، التي إما أنها لا تزال في المنازل، أو حوّلت إلى الخارج، على ما تبيّن في قضية ميشال مكتف. كذلك، طلب السيد أن تُلغى السرية المصرفية عن كل هؤلاء المستهدفين بالقانون لمدة سنتين.
الأهم من مضمون القانون آلية تنفيذه. من الذي يدّعي ومن الذي يُنفّذ وما هو دور القضاء، مدعٍ عام تمييزي ومالي؟ وما هو دور هيئة التحقيق الخاصة التي يرأسها سلامة ويشارك في عضويتها قضاة؟ في الأساس، كيف يمكن إلزام الناس بردّ أموالها، فيما المسؤول عن حماية النقد وحماية أموال المودعين متّهم بتحويل الأموال إلى الخارج؟ باختصار، لا يمكن تكليف هيئة التحقيق مسؤولية متابعة تنفيذ القانون، فيما رئيسها ملاحق قضائياً بتهمة تهريب الأموال. ما يحتّم بالتالي تعديل بنية الهيئة إذا كانت هي الوحيدة المخولة مراقبة الحسابات ورفع السرية عنها...
كل ما طرح يشير إلى أن المسألة معقّدة. المطلوب أن يطال القانون كل من استفاد من معلومات يملكها دون غيره لتهريب أمواله، فيما حرم المودعون «العاديون» من هذه المعلومات، لا بل أكثر من ذلك قدّمت لهم معلومات مضلّلة ومن أعلى المستويات النقدية والسياسية. هؤلاء لا يكفي معهم استرداد أموالهم إلى المصارف، المطلوب محاسبتهم. لكن لهذا السبب، المطلوب إقرار قانون استرداد الأموال المحوّلة استنسابياً، بشرط أن يكون قابلاً للتنفيذ، بما يسمح بمعرفة لمصلحة من نُفّذت هذه العمليات، وخصوصاً مع وقوف معظم الوزراء والنواب بوجه وضع القيود على التحويلات والسحوبات النقدية (كابيتال كونترول).
بالخلاصة، النص القانوني لم يُتّفق عليه بعد. رئيس اللجنة ابراهيم كنعان أعلن أنها ستقوم بجوجلة هذه الاقتراحات، بما يتيح من جهة البقاء تحت سقف الدستور وعدم تعرض القانون للطعن، ومن جهة ثانية يعطي الناس التي ظلمت في هذا المسار بعض حقوقها.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا