بضع ملاحظات انتهت اليها الجلسة الاولى لانتخاب رئيس جديد للجمهورية امس، واقتصرت على دورة اقتراع اولى ختم رئيس المجلس نبيه بري على اثرها المحضر: اولاها، ان الافرقاء الثلاثة، قوى 8 و14 آذار والنائب وليد جنبلاط، اظهروا من الدورة الاولى احجام القوة التي يتمتعون بها في الاستحقاق، وبيّنوا في الوقت نفسه انه اقصى ما يمكنهم ان يفعلوه في اي دورة اقتراع ثانية.

وهو مؤشر الى ان ايا منهم عاجز عن الحصول على الاكثرية المطلقة من الاصوات التي تتطلبها الدورة الثانية، وعاجز كذلك عن تعديل موازين القوى التي ابرزها اقتراع الدورة الاولى ما دام المرشحون الثلاثة اياهم: النائب هنري حلو بالاصوات الاقل عددا للفريق الاقوى تأثيرا بين الآخرين بسبب مقدرته على ترجيح كفة الفوز، رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، الورقة البيضاء التي لا يصلح استخدامها ومن ثمّ نجاحها الا لمرة واحدة من باب المناورة بيد انها خبأت مرشحا مضمرا لا يسعه الا الحصول على العدد نفسه من الاصوات.
ثانيها، انها المرة الاولى في تاريخ الاستحقاقات الرئاسية منذ عام 1926 يخفق مجلس النواب في انتخاب رئيس في جلسة واحدة. مرتان اضطر فيهما الى تعليق الانعقاد وقتا قصيرا لم يتجاوز نصف ساعة من ضمن الجلسة نفسها، بغية التوصل الى تسوية بين مرشحين اثنين او ثلاثة مرشحين بعدما فشلوا في الحصول على اكثرية الثلثين في الدورة الاولى: اولى عام 1970 بين المرشحين سليمان فرنجيه والياس سركيس من اجل التفاهم على ثالث بديلا منهما فتعثر المسعى واستمرا في المنافسة، وثانية عام 1989 بين المرشحين رينه معوض وجورج سعادة والياس هراوي انتهت الى انسحاب الاثنين الاخيرين للاول في الدورة الثانية من الاقتراع. الا ان استحقاق 1970 تطلب دورة اقتراع ثالثة، لمرة اولى واخيرة حتى اليوم على الاقل، بسبب ابطال الدورة الثانية جراء التلاعب بأوراق الاقتراع. لم يعن تعليق انعقاد الجلسة لوقت محدود بين دورتي الاقتراع سوى اصرار النواب على انجاز الاستحقاق في الجلسة نفسها، وعدم تأجيله تحت اي ذريعة.
ثالثها، بسبب اخفاق البرلمان في انتخاب الرئيس في الجلسة الاولى، اهتم رئيس المجلس نبيه بري بالتأكيد للنواب ــــ ما كان تحدّث عنه في عين التينة مساء الثلثاء ــــ انه سيختم محضر الجلسة الاولى، وينتقل الى جلسة ثانية يستهلها فور اكتمال نصاب الثلثين التئاما بمباشرة اقتراع الدورة الثانية. كذلك الامر بالنسبة الى اي جلسة لاحقة متى تعذّر اكتمال هذا النصاب في اي منها. وهي المرة الاولى ايضا يجد رئيس للبرلمان نفسه امام سابقة كهذه، كان اسلافه اعتادوا ختم محضر جلسة واحدة لانتخاب الرئيس ايا تكن دورات الاقتراع.
وضع بري بذلك حدا لجدل لم يطل قال ان ختم المحضر يجعل اي جلسة لاحقة جديدة لمحضر آخر، وتبدأ مجددا بدورة اقتراع اولى ثم ما يليها.
رابعها، لن يتكرر بدءا من جلسة الاربعاء 30 نيسان السيناريو الذي أُعدّ باتقان لجلسة امس. اي جلسة يلتئم نصابها في اي وقت لاحق هي جلسة انتخاب الرئيس من الدورة الثانية بالاكثرية المطلقة. مآل ذلك ان رئيس المجلس قد يجد نفسه يحدد موعدا تلو آخر لجلسات متتالية الى ان يحضر النواب الـ86 في القاعة، من اليوم حتى اليوم الاخير من ولاية الرئيس ميشال سليمان في 25 ايار من ضمن المهلة الدستورية، وربما ما بعدها اذا تعذّر انتخاب خلف له. لا وجود بعد الآن للانعقاد الحكمي للمجلس، ولا لليوم العاشر الذي يسبق نهاية الولاية، بعدما استخدم بري صلاحيته الدستورية في المادة 73 بتوجيه الدعوة. وسيكون على النواب الذهاب الى ساحة النجمة مرة تلو اخرى بناء على المواعيد التي يحددها رئيس المجلس ليس الا.
خامسها، لم يسبق ان استخدمت الاوراق البيض على نحو امس بتحوّلها رزمة واحدة قوية ونافرة ذات دلالة. لم يخلُ عدد وافر من الاستحقاقات الرئاسية المتعاقبة من اوراق بيض ترجحت بين ورقة بيضاء واحدة مع الرئيس فؤاد شهاب عام 1958، واثنتين مع الرئيس شارل حلو عام 1964، وثلاث مع الرئيسين بشارة الخوري عام 1943 والياس سركيس عام 1976، وخمس اوراق بيض مع الرئيسين بشير الجميل عام 1982 والياس هراوي عام 1989، وست اوراق بيض مع الرئيسين رينه معوض عام 1989 وميشال سليمان عام 2008. توخى العدد القليل من الاوراق تلك على مرّ عقود الاستحقاقات ارسال اشارة تذمر وتحفظ عن المرشحين، من غير ان توحي بقوة وازنة. كان واضعوها نواباً منفردين، ولم تختر كتلة نيابية مرة خيارا مشابها.
في جلسة البارحة بدا الامر مختلفا تماما. اقل من نصف مجلس النواب اسقط في صندوقة الاقتراع 52 ورقة بيضاء كي يقول انه ضد المرشح الآخر، والمقصود به في حساب فريق 8 آذار ترشيح جعجع بالذات، لكن من دون ان يتقدم هذا الفريق بمرشحه. قال بالعلامة الدالة هذه، غير المسبوقة والمألوفة في حجمها، ان اقل من نصف المجلس ضد ترشيحه، وانه المرشح غير الملائم للتسوية المحتملة، وان لا انتخاب للرئيس ولا نصاب بثلثي الحضور لتأمين انتقال جعجع الى الدورة الثانية من الاقتراع.
المغزى نفسه تضمّنه ترشيح جنبلاط لحلو بلا اوهام بوصوله الى الرئاسة، ولا كذلك الاستمرار بترشيحه حتى جلسة انتخاب المرشح الجدي في الوقت المناسب، ما خلا تشتيت اصوات المجلس وكشف الحجم الحقيقي لكلا الفريقين المتنافسين. لم ترم خطوة جنبلاط الا الى التسليم الضمني بأن الرئيس المقبل لن يشبه ايا من مرشحي جلسة امس.
سادسها، بالتأكيد مثل التصويت بالورقة البيضاء حقا ديموقراطيا لصاحب هذا الرأي. بيد ان اللافت في الامر انه استعاض به عن مقاطعة جلسة الانتخاب، في الدورة الاولى على الاقل. لا يُغفل هنا القول ان مقاطعة عدد كبير من النواب جلسة انتخاب الرئيس ليس من صنع استحقاق 2007 ـ 2008. قبله قاطع نواب مسيحيون ومسلمون في عباءة كمال جنبلاط انتخابات 1976 لمنع فوز سركيس في اي من دورتي الاقتراع ولكنه فاز. وقاطع نواب مسيحيون ومسلمون تحت عباءة الرئيس صائب سلام انتخابات 1982 للحؤول دون فوز بشير الجميّل الا انه فاز من الدورة الثانية. كذلك منعت القوات اللبنانية بقيادة جعجع في انتخابات 1988 نواب المناطق المسيحية من الوصول الى مجلس النواب للحؤول دون انتخاب فرنجيه.
هكذا تاريخ استحقاقات الرئاسة محشو بالمقاطعة والاوراق البيض. لكن لكل منهما اوانه ووسيلته وعدّته. في جلسة امس تأكدت فاعلية سلاح الاوراق البيض بين ايدي تكتل نيابي كبير يمسك، كالفريق الآخر، بنصاب الثلثين من عنقه. كانت الاوراق البيض الطريقة المثلى لمواجهة الخصم تحت وطأة الاصرار على ضرورة المشاركة في جلسة الدورة الاولى. الا ان مقاطعة النصاب ستكون على الارجح السلاح الاجدى للحؤول دون التئام البرلمان قبل ابرام تفاهم على الرئيس، لا على المرشح.