من بوابة مطالبة رئيس الجمهورية بإعادة صلاحيّة طلب رفع السرية المصرفية للقضاء، عاد النقاش في مسألة تعديل قانون السرية المصرفية إلى الأساس. فريق طالب مجدداً بإلغاء هذه السرية تلقائياً عن أي قيّم على خدمة عامة، وفريق لا همّ له سوى تفريغ التعديل من قيمته، من خلال جعل هيئة التحقيق الخاصة ممراً إلزامياً لرفع السرية. أمس، كان المخرج بمناقشة قانون السرية المصرفية بالتوازي مع اقتراح تعديل هيكلية الهيئة. إذا ضُمنت استقلاليتها من خلال إزاحة حاكم مصرف لبنان عن رئاستها، فلن يكون صعباً الوصول إلى نص يحفظ حق القضاء والهيئة معاً. لكن من رفض المسّ بالسرية المصرفية هو نفسه الذي يرفض المسّ بسلطات «الحاكم»
الفوضى التشريعية التي تتحكّم بالمجلس النيابي ليست بحاجة إلى شهود. يتضح يوماً بعد يوم أن الاستعجال أو الشعبوية أو الخفة كانت سبباً في إقرار عدد كبير من القوانين المتضاربة والمتناقضة. واحد من الأمثلة الجليّة على هذه «الخبيصة التشريعية»، كما وصفها النائبان جميل السيد وجورج عقيص في لجنة المال، أمس، هو ما يتعلق بقانون السرية المصرفية وتعديلاته.
المادة السابعة من قانون سرية المصارف الذي أقرّ في عام 1956 نصّت على أنه «لا يمكن للمصارف أن تتذرع بسر المهنة المنصوص عليه في هذا القانون بشأن الطلبات التي توجّهها السلطات القضائية في دعاوى الإثراء غير المشروع».
هذا يعني على الأقل أن جنّة السرية المصرفية التي فتحت أمام الرساميل العربية والأجنبية كانت تنتهي عند حد الإثراء غير المشروع. وهنا، يتضح أن القضاء كان يوجّه الطلب مباشرة إلى المصارف، التي لا تملك حق الرفض.
مرت السنوات وأقر حتى عام 2018 أكثر من 60 قانوناً تتعلق بالقطاعين المالي والنقدي، كان أحدها قانون مكافحة تبييض الأموال الصادر في عام 2001، والذي تقرّر بموجبه أن تنشأ لدى مصرف لبنان «هيئة مستقلة، ذات طابع قضائي، تتمتع بالشخصية المعنوية، غير خاضعة في ممارسة أعمالها لسلطة المصرف وتسمى «هيئة التحقيق الخاصة». لكن للمفارقة، في المادة نفسها (السادسة)، ضربت هذه الاستقلالية من خلال إيكال مهمة رئاسة الهيئة إلى حاكم مصرف لبنان. وقد أنيط بهذه الهيئة صلاحيات واسعة، أعيد توسيعها بعد تعديل القانون في عام 2015، ليشمل التحقيق في كل ما يندرج تحت عنوان «الأموال غير المشروعة» والتي تتخطى جرائم تمويل الارهاب وتبييض الأموال لتصل إلى جرائم الفساد، بما في ذلك «الرشوة وصرف النفوذ والاختلاس واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة والإثراء غير المشروع والسرقة وإساءة الائتمان والاختلاس والاحتيال». وهذه الصلاحية تشمل إجراء التحقيقات وتقرير مدى جدية الأدلة والقرائن على ارتكاب الجرائم واتخاذ القرار المناسب بشأنها ولا سيما التجميد الاحترازي المؤقت للحسابات و/ أو للعمليات المشتبه فيها…
طبعاً تشير التجربة إلى أن الهيئة كانت متعاونة مع الطلبات الخارجية، لكنها وقفت بالمرصاد أمام الطلبات الداخلية التي تحمل طابع مكافحة الفساد، معلنة أمانتها المطلقة للسرية المصرفية. هذا ما حصل عندما طُلب الكشف عن حسابات الهبات، بالرغم من أن هذه الحسابات هي حسابات عامة. وهذا ما حصل عندما طلب المدعي العام التنفيذي لائحة بأسماء الذين حوّلوا أموالاً بعد 17 تشرين، وهذا ما حصل عندما طلب «نادي القضاة» التجميد الاحترازي لحسابات كل السياسيين والموظفين الكبار والقضاة وكل من يتعاطى الشأن العام وشركائهم والمتعهدين.
لكن في المقابل، فإن الحالة الشعبية الضاغطة في عام 2019، مقرونة بالانهيار المالي الكبير، جعل مطلب رفع السرية من الأمور «الربّيحة» شعبياً. فكان أن تقدّم عدد من الكتل والنواب المستقلين باقتراحات قوانين لرفع السرية المصرفية عن العاملين في الشأن العام، إن كانوا منتخبين أو معيّنين.
هيئة التحقيق الخاصة... حامية المصارف من السريّة المصرفيّة!


هنا أيضاً، أنتج التنافس اقتراحات غير جدّية، لا نصاً ولا مضموناً، إلى أن عمدت اللجنة الفرعية المنبثقة عن اللجان المشتركة برئاسة النائب ابراهيم كنعان إلى جوجلة هذه الاقتراحات والتنسيق مع خبراء قانونيين وماليين، للخروج بنص اعتبر حينها متقدماً لأنه رفع السرية المصرفية عن أي قيّم على خدمة عامة، أمام العديد من الهيئات القضائية والضريبية والمالية. لكن لأن حزب المصرف لا يزال حاكماً، لم يخرق هذا النص اللجان المشتركة، فقزّمته إلى حدوده الدنيا، حتى بدا التعديل بلا لزوم، لأنه أعطى صلاحية طلب رفع السرية إلى هيئة التحقيق الخاصة (تملكها أصلاً) والقضاء (يملكها في حالات الإثراء غير المشروع) وهيئة مكافحة الفساد التي لم تُنشأ بعد! لكن المفاجأة لم تقف عند هذا الحد. لم تكتف الهيئة العامة لتفريغ القانون من مضمونه في اللجان المشتركة، بل أكملت المهمة عبر إقرار القانون بعد إسقاط النص المتعلق بصلاحية القضاء في طلب رفع السرية. لكن مفاعيل هذا الإلغاء، من حيث يدري النواب أو لا يدرون، طالت حتى الحق الذي كان مصاناً في قانون السرية المصرفية لعام 56. فالمادة الثانية من القانون الذي أقرّ في أيار العام الماضي وردّه رئيس الجمهورية في حزيران مطالباً بإعادة تأكيد دور القضاء، أقرت تعديل المادة ٧ من قانون السرية المصرفية ليصبح نصها: «لا يمكن للمصارف والمؤسسات المالية التذرع بالسرية المصرفية بشأن الطلبات التي توجّهها السلطات والهيئات المحددة في القانون».
كان يمكن لهذا النص أن يكون عادياً على اعتبار أن صلاحية القضاء في طلب رفع السرية المصرفية انتقلت من المادة السابعة في قانون 1956 إلى المادة الثالثة في قانون 2020. لكن إلغاء المجلس للفقرة المتعلقة بالقضاء في تلك المادة، والاكتفاء بإعطاء حق طلب رفع السرية إلى هيئة مكافحة الفساد وهيئة التحقيق الخاصة، أدى عملياً إلى إبعاد القضاء نهائياً عن أي دور في رفع السرية المصرفية.
أمس، أعاد رئيس لجنة المال طرح النص الأبعد مدى. أي النص الذي أقرّته اللجنة الفرعية التي ترأّسها في أيار 2020، والذي يشير إلى إلغاء السرية المصرفية نهائياً عن أي قيّم بخدمة عامة أو وظيفة عامة.
أمام هذا الواقع الذي فرض نفسه مجدداً، وبعدما صار القانون بين دفّتَي الساعين إلى رفع السرية عن العاملين في القطاع العام بالكامل، وبين الساعين إلى إفراغ القانون من مضمونه، اقترح النائب حسن فضل الله تشكيل لجنة فرعية تدرس القانون بالتوازي مع الاقتراح المقدم من كتلة الوفاء للمقاومة، والمتعلق بتعديل المادة السادسة من قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب. التعديل يهدف إلى تحقيق استقلالية الهيئة بشكل فعلي عبر نزع رئاستها من يد حاكم مصرف لبنان، واستبداله بأحد القضاة من بين رؤساء غرف التمييز الحاليين أو السابقين (يقترح مجلس القضاء الأعلى اسمه ويعين بقرار من مجلس الوزراء). الترابط بين الأمرين صار واضحاً بالنسبة إلى كل النواب. إذا كان ثمة من يصرّ على أن تكون هيئة التحقيق الخاصة معبراً لرفع السرية حتى بالنسبة إلى القضاء، فيفترض حماية استقلاليتها. وأي أمر آخر يعني بوضوح «النضال» ليبقى حاكم المصرف المركزي أميناً على كل الجرائم المالية، ومانعاً لأي تحقيق بشأنها. في المقابل، إذا عُدّلت رئاسة الهيئة، فإن الخلاف الراهن بشأن صلاحية القضاء بطلب رفع السرية مباشرة أو عبر الهيئة يصبح تفصيلاً.
لكن هل يُمكن أن يمرّ التعديل؟ في اللجنة سُمعت آراء متنوعة تتعامل مع الاقتراح بإيجابية، ولا سيما النواب: جورج عقيص، أنور الخليل وياسين جابر، من دون أن يعني ذلك أن تصويت هؤلاء أو كتلهم سيكون لمصلحة التعديل.
وبعدما كان كنعان مصرّاً على حسم أمر قانون السرية المصرفية مباشرة، وعدم انتظار المزيد من الوقت، عاد ووافق على تشكيل لجنة فرعية برئاسته (اقترح فضل الله أن يترأسها كنعان)، تضم النواب: هادي حبيش، علي فياض، جورج عقيص، ياسين جابر وفيصل الصايغ، وأعطيت مهلة 15 يوماً لدراسة التعديلات المطروحة. وقد أعلن كنعان، بعد انتهاء الاجتماع، أنه «إذا لم نصل الى نتيجة لجهة البتّ، فسنطلع الرأي العام على النتائج، مع تفضيلي وتفضيل عدد من الزملاء العودة إلى ما أقرّته اللجنة الفرعية المنبثقة عن اللجان المشتركة التي كانت قد وصلت إلى إلغاء السرية المصرفية عن الموظف العمومي المنتخب والمعين».



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا