لا تشبه زيارة الموفد الأميركي ديفيد هيل لبيروت، قبل يومين، زيارة الموفد الأميركي ريتشارد مورفي قبل أكثر من ثلاثين عاماً. إلا أن الرسالة التي حملها مورفي تبدو اليوم القاسم الوحيد المشترك، لكنها مطروحة من جانب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وليس من الجانب الأميركي. المرشح الرئاسي جبران باسيل أو الفوضى قد تكون المعادلة الأوضح اليوم، وفق انطباعات سياسي رافق مرحلة مورفي في لبنان، وما يحصل اليوم من فوضى تسبق الانتخابات الرئاسية. فالفوضى العارمة في تأليف الحكومة، في ملف التدقيق الجنائي، والتحقيق في انفجار المرفأ، في المنصة الإلكترونية، في الترسيم البحري شمالاً، في الحدود البرية جنوباً وبقاعاً، في الكهرباء والمحروقات والمواد الغذائية والطبية. كل المشهد كان واحداً في ما يشهده لبنان منذ 17 تشرين، مع التذكير بأن الحدث الشعبي وقع بعد قليل من إطلاق باسيل مقولة قلب الطاولة الذي لم يتغير مساره وإن كثرت الأحداث المأسوية، لأن الهدف لا يزال نفسه.ولأنه كذلك، جاء قرار رئيس الجمهورية عدم توقيع مرسوم تعديل الحدود البحرية، ليضع قضية إقليمية ووطنية بهذا الحجم بتشعباتها وثرواتها على طريق الرئاسيات، وليصبّ في خانة تقديم النيات الحسنة أمام الموفد الأميركي. وهيل ليس وزير الخارجية سامح شكري أو الأمين العام المساعد للجامعة العربية حسام زكي، حتى لا يعير باسيل اهتماماً للقاء به، ما دامت رسالة عدم توقيع المرسوم ستصل إليه قبل أن يصل إلى لبنان.
حين بدأت الحملة على وزير تيار المردة ميشال نجار للتوقيع على المرسوم، استشعرت أجواء عسكرية وسياسية أن ثمة أمراً ما يحضّر في الأجواء، علماً بأن التحضير للملف التقني كان يتم بالتنسيق مع السلطات السياسية. تسربت الخشية الى نفوس البعض من أن يكون وراء التلويح بوقف المرسوم حرق أشخاص على طريق الرئاسيات، أو تعويم آخرين. فإذا كان أمراً محتّماً ألّا توضع قضية بهذا الحجم في يد طرف واحد («الأخبار»، 12 نيسان 2021) ولا في يد قائد الجيش وحده، إلا أن قرار تعليق المرسوم، لا يمكن أيضاً أن يكون في يد رئيس الجمهورية وحده، ليس من باب الصلاحيات وإنما لجهة التداعيات السياسية التي تركها عدم التوقيع والتكهنات التي رافقته. ورغم أن عون ترك الباب مفتوحاً لما تحمله الأشهر المقبلة وانتظار نتيجة المفاوضات، فإن الأهم انتظار مفاعيل التهدئة مع واشنطن على وضع باسيل، ولا يمكن لأيّ حملة سياسية مضادّة أن تقنع خصومه بأن امتناع عون هو فقط لاعتبارات وطنية.
هناك أكثر من طرف أصيب في ما أسفرت عنه الأيام الأخيرة، وأوّلها قائد الجيش. في المبدأ، هو يخضع للسلطة السياسية في أي قضية سيادية، وأيّ قرار نهائي يفترض أن يكون صادراً عنها، علماً بأن المسار الذي سلكه الجيش لم يكن منفصلاً عن التنسيق مع السلطات السياسية والقوى المعنية من دون استثناء. هناك اعتباران: شخصي وسياسي في ما نتج من وقف العمل بالملف التقني الذي أعدّ أخيراً. فوقف المرسوم قد يترك خيبة أمل لدى الفريق اللبناني الذي يشهد له بالجهد والاحترافية، ولا سيما «في إبراز حق لبنان بثروته الدفينة في المساحات التي عمل عليها، أمام الرأي العام اللبناني»، وهو كان يطمح الى تحقيق إنجاز عملاني، من خلال عمل تقني بحت، والعبرة اليوم في إعطاء دفع جديد له في مفاوضاته المقبلة، فلا يتمّ التخلّي عنه مجدداً. أما سياسياً، فلا شك أن اندفاعة قائد الجيش لم تترك صدى مريحاً، بل إن تسليط الضوء عليه أثار نقزة «رئاسية» للمرة الثانية بعد المؤتمر الصحافي حول أوضاع العسكر، ما استدعى إعادة تقليص المساحة المعطاة له تحت غطاء السلطة السياسية.
وأكثر من طرف استفاد من البلبلة التي حصلت. فالقوات اللبنانية بلسان النائب جورج عدوان دخلت على خط الدفع في اتجاه توقيع رئيس الجمهورية المرسوم. فظهرت القوات حريصة على التوقيع، بقدر حرصها على إحراج القوى الأخرى، وتبيان أن هناك طرفاً يتخلى عن السيادة البحرية الكاملة، في رسالة مزدوجة محلية وخارجية تحمل أيضاً إشارات رئاسية.
ويبقى الاعتبار الأهم هو المتعلق بالرئيس نبيه بري وحزب الله. بري، ومعه الرئيس المكلّف، لم يكن متحمساً للمرسوم، وما أراده من وقفه هو نفسه الذي أراده عون وباسيل، والاعتباران يصبّان في خدمة تحسين العلاقة مع واشنطن. لكن السؤال عن موقف حزب الله، لأن مسار التفاوض وتشكيل الوفد منذ أن بدأ كان تحت عيون الحزب، وتغيير مسار التفاوض حول المساحة الجديدة كان أيضاً بعلم منه، إلى درجة اتهامه بأنه كان وراء الدفع بخلق مشكلة بحرية جديدة توازي مشكلة مزارع شبعا. وكذلك فإن عملية الضغط على حليفه وحليف بري تيار المردة، وصلت شظاياها إليه. فإلى أيّ مدى يمكن للحزب أن يغضّ الطرف عن التداعيات السياسية لهذا التطور الجديد، وكيف سيبرّر تغطيته لعدم توقيع المرسوم، والتخلّي عن السيادة البحرية بعد أسابيع من الاحتفاء بها، فيما تحوّل العنوان الكبير من المطالبة بمساحة بحرية الى مجموعة من آراء وخطوات مبعثرة كالتمسك بخبراء دوليين، ورسائل الى الأمم المتحدة واليونان وغيرها؟ وكيف سيبرّر كل هذه الهمروجة السيادية التي انتهت ببساطة على طريق قصر بعبدا؟




اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا