«آه يا حكام العرب
يا رب يصيبن جرب
عم بيصفوا القضية
بالحلول السلمية
قولوا للرؤسا قولوا
قولوا لكل الملوك
هالثورة ما بتتصفّى
الجماهير على صفا»
(أول معرفتي بالأخ أنيس النقاش كان يهتف بهذه الأغنية في مسيرة طلابية حاشدة استنكاراً للهجوم الذي شنته قوات النظام الأردني بهدف تصفية الوجود الفلسطيني المسلح ومنعه من ممارسة عمله الفدائي على حدود فلسطين المحتلة، وذلك عام 1970، في ما عرف يومذاك بحوادث أيلول الأسود).

لست في وارد كتابة سيرة ذاتية للفقيد الكبير، فقد تكلم هو عن تاريخه وكتب عنه في أكثر من مكان. بل أريد أن أتكلم عن بعض الصفات التي كان يتمتع بها هذا النوع من الثوار الذين يستحقون الدخول في ضمائر الشعوب، وخاصة الأجيال الشابة التي تتوق إلى العمل الجهادي والتغييري والنهضوي.
1- كان أنيس عاشقاً ذاب في عشقه حتى غاب وشرب الكأس حتى الثمالة، بلا تردد ولا مواربة، بعكس ما يفعل أنصاف وأرباع العاشقين، فلا تدري بين يدي الحديث عنه عما تتكلم. أعن العاشق أم عن المعشوق أم عن العشق الذي يمارسه العاشقون من دون تجشم جهد التفسير. فلم يكن أنيس ممن «يضعون رِجلاً في البور ورجلاً في الفلاحة»، كما ورد في أمثال الفلاحين. ولم يرتد البزة العسكرية وهو يخبّئ الطقم والكرافات في مكان ما وراء خط القتال. ولم يكن من ثوريي المقاهي والمكاتب وأروقة المؤتمرات، بل عاش قضية النضال والثورة بكل جسده وفكره وروحه. كان لا يستطيع أن يجلس مستكيناً في صفه الدراسي في مدرسة المقاصد، بينما هناك حرب تشنها القوات الاسرائيلية الغازية على الجبهات العربية في حزيران 1967، فقفز عن سور المدرسة العالي وذهب الى منزله وأحضر جهاز ترانزيستور ليتابع مسار المعركة. لم يكن يكتفي بأن هناك أحزاباً كبيرة وتنظيمات فلسطينية قادرة على القيام بالواجب الوطني، بل أقنع قيادة «فتح» بتشكيل ما سُمّي يومها «تنظيم أنصار الثورة الفلسطينية» على امتداد الساحة الطلابية، للقيام بواجب الدفاع عن حق الثورة الفلسطينية في العمل من الأراضي اللبنانية.
ثم في مرحلة لاحقة، أي بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1978، أسهم في تشكيل ما سمّي «حركة لبنان العربي» و«قوات الأرض»، بمشاركة مجموعات من المناطق اللبنانية كافة، سعياً لتأسيس إطار لمقاومة لبنانية مسلحة غير خاضعة لتوازنات القوى الاقليمية والدولية التي كانت تكبّل حركة الاحزاب اللبنانية والتنظيمات الفلسطينية بمرجعياتها ومصادر تمويلها المختلفة. لكن هذه المحاولة فشلت، لعجز الراعي الفلسطيني عن مواكبتها حتى النهاية، ورضوخه لضغوط شتى، كان من بينها ضغوط السفارة السوفياتية. وقد كان لهذه التجربة أثر مهم في إنضاج وعي مقاوم لدى المئات من الشباب المدرب الذي أسهم في مرحلة لاحقة بدور كبير عبر التحاقه بالحركات المقاومة التي تشكلت بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1982، حاملين تجربتهم وأسلحتهم التي خلّفوها في بيوت ومخابئ في الجنوب المحتل. ولا يجوز التغاضي عن التجربة السياسية المميزة التي خاضتها هذه المجموعة التي كان أنيس أساسياً في تشكيلها، والتي كانت توأماً لما كان يسمّى الكتيبة الطلابية لحركة فتح. فهي حملت إرثاً معادياً للحرب الأهلية، داعياً الى السعي بكل قوة لإيقافها ومنع تمدّدها، والتركيز على قتال العدو الصهيوني. وقد كان مؤيداً للسياسة التي كان ينتهجها الامام موسى الصدر الذي بذل أقصى جهده وصولاً الى إعلان الاضراب عن الطعام لمحاولة الضغط على الأفرقاء على جانبي خطوط التماس القتالي العملي والنفسي المتخيل، لوقف الاقتتال والحد من الطموحات غير العقلانية، التي ثبت أنها كانت جزءاً من توجهات إقليمية ودولية بعيدة عن الشعارات المطروحة. فكانت العلاقة مع حركة أمل بشخص الشهيد مصطفى شمران الذي كان مطّلعا على ظروف النهضة الاسلامية في إيران ومواكباً لها.
ومن موقعه الباحث دائماً عن اشتباك مع العدو الصهيوني، سعى الى تأسيس إطار تنظيمي سريّ في قرى الشريط اللبناني المحاذي للحدود الفلسطينية. لكنّ الأحداث المتسارعة التي شهدتها منطقة الشريط بعد عام 1976 حدّت من تطور هذا المشروع.
لم يكن يوماً أنيس منفصلاً عن قضية النضال والعمل النضالي الجاد الذي انخرط فيه حتى النخاع، منذ اليوم الأول الذي تعرفنا عليه فيه، حتى اليوم الذي فارق فيه الحياة الدنيا معلناً استحقاقيته لإجازة طويلة.
2- ليس بإمكانك التعامل مع هذا النوع من الرجال الذي ينتمي اليه أنيس النقاش، بناءً على خلفية نمطية تم تشكيلها عنه، وبناءً على المعلومات الدينية أوالطائفية أو العرقية أو الجهوية، كذلك بناءً على انتماءاته الحزبية والتنظيمية، أو بناءً على علاقته بشخصية ما أو قوة سياسية ما. هو دائماً الانسان القلق الذي يبحث عن الحقيقة والصدق ووضوح الهدف تحت سقف شديد الارتفاع، يعبر فيه الى آفاق واسعة من الخيال الثوري والطموح المتدفق لتحقيق الانجاز. فهو المسلم الباحث عن سبل تأمين انخراط المسيحيين في العمل الثوري. وهو السنّي المدافع عن الشيعة والداعي الى تشكيل جهاديتين شيعية وسنية لمواجهة الهجمة الاستعمارية. وهو اللبناني الذي يقاتل في فلسطين، والفلسطيني الذي يعلم أن لا إمكانية لتحريرها من دون الأمة. وهو العربي الناصري الذي وجد ضالته في الامام الخميني وفي إيران الاسلامية. وهو العربي الذي طرح فكرة التشبيك بين عناصر الأمة المختلفة، بين العرب والإيرانيين والأتراك، خاصة في منطقة المشرق، لأن لا مستقبل آمنا لبلادنا من دون شبكة أمان إقليمية يجد فيها جميع الأطراف من أهل المنطقة مصالحهم. وهو المقاوم الذي لا يستكين لاعتبار محور المقاومة منتصراً، وبالتالي لا يقبل بأنه «قد كفى الله المؤمنين شر القتال»، بل يريد من جميع الافراد، على اختلاف مواقعهم ومستوياتهم العلمية والثقافية، والمؤسسات على تنوّعها، أن يسهموا، كل على قدره ومن موقعه، في صناعة الانتصار وتمتينه. وهو لا يرى حرجاً في توجيه النقد الى الجميع، معتبراً أن عملية النقد البنّاء هي الأداة الناجعة في خدمة الجهد العام الذي تخوضه الامة.
3- كان أنيس الاستراتيجي الواضح الذي لا يضيّع الموقف الاستراتيجي خدمة لتكتيكات شعبوية أو مكاسب صغيرة لا تغني ولا تسمن. بل يرى الصورة الواسعة للمعركة بكل خطوطها وتفاصيلها، ويدرك أين تقع اتجاهاتها الحاسمة، وكيف يمكن صناعة اللحظة التاريخية لتحقيق الانتصار التاريخي. ولكن لا يعتبر أن المعارك الصغيرة غير ذات أهمية، ويمكن خسارتها لأسباب واهية، بل يعتبر أن التفاصيل الصغيرة قد تحمل معاني كبيرة، وأن المعارك الصغيرة تراكم هزائم كبيرة اذا لم تجر إدارتها بعقل تكتيكي سليم.
4- اعتبر الفقيد الكبير أن لمعركة تحرير فلسطين القول الفصل في عملية نهوض الأمة واكتسابها وزنها الاستراتيجي بين الأمم. واذا لم تجهز العدة والعتاد لهذه العملية الكبيرة والصعبة والشاقة، فلا يمكن لها أن تنظر، أولاً الى نفسها بعين الرضى، وثانياً هي لا يمكنها أن تخرج طاقاتها الدفينة والخير الرابض في أعماق نفوس أبنائها من دون الدخول في أتونها، والتي لا يمكن الولوج في معركة النهوض الشامل والتنمية والتصنيع وتحقيق الاستقلال عن النفوذ الغربي الا في خضمها. وهذه المعركة التي يجب مواصلتها حتى النصر، والتي يمكن أن تتعرف الأمة الى نفسها من خلالها، وتنشئ محاور تحالفاتها وتحدد جبهات أعدائها ودرجات عدائهم. لذلك كان التحاقه بصفوف حركة التحرير الوطني الفلسطيني، «فتح»، التي كانت تؤكد أدبياتها المبكرة شعارات مثل «فتح ديمومة الثورة والعاصفة شعلة الكفاح المسلح»، أو «فتح طليعة الثورة العربية الشاملة». لذلك، فقد كان الانتماء الى «فتح» يعني الانتماء الى عنصر التثوير الذي خلفته الهزيمة داخل الوجدان العربي. وهو انتماء الى قوة شعبية عميقة الجذور داخل الشعب الفلسطيني، يحظى برعاية محور المقاومة الناصرية في القاهرة. وهو الذي تحول بعد معركة الكرامة في عام 1968 الى بركان من الثورة والتحدي. من هنا فقد كان الانتماء الى «فتح» دخولاً مباشراً في معركة نهوض الأمة. وقد كان شخصياً على علاقة مميزة مع الرموز النضالية كافة في حركة «فتح»، الذين سبقوه بمعظمهم الى الشهادة في سبيل قضيتهم العادلة. وكان لأنيس رصيد نضالي في حركة «فتح» أسهم من خلاله في تمتين العلاقات مع الثورة الاسلامية الناهضة مند بداية انتصارها، ثم كذلك في مرحلة الانتفاضة الفلسطينية الثانية داخل الأرض المحتلة.
5- لقد أدرك أنيس باكراً أهمية وضع كل طاقات الأمة في معركة التحرير وتحقيق الاستقلال الشامل، فكانت علاقته بالشهيد محمد صالح الحسيني، المبكرة منذ أواسط السبعينيات من القرن الماضي، الذي تعرف من خلاله الى أهمية إيران داخل الأمة وما تختزنه من قوى ثورية فاعلة وقادرة على إحداث تغيير جذري للعلاقة بين القوى، إذا ما قدِّر لثورتها النصر. وقد كانت لحظة انتصار الثورة الاسلامية عام 1979 لحظة فرح عارم، تأكد فيها لكل الوطنيين أن عصراً جديداً قد بدأ، فسارع الى الالتحاق بهذا المشروع الثوري وقدم التضحيات الكبيرة أمام هذا الانتماء.
رحمك الله أيها المجاهد الكبير، وأحسن مثواك. نشهد أنك أبليت بلاءً حسناً، وكرّست حياتك في سبيل مبادئ وقيم الحق والعدل والحرية... ونسأل الله أن يحتسبك شهيداً إنه سميع مجيب.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا