في الثالث عشر من أيلول الماضي، أنجز الحزب السوري القومي الاجتماعي انتخابات مجلسه الأعلى (السلطة التشريعية) التي انتخبت الأمين ربيع بنات رئيساً للحزب. هذه الانتخابات أصرّ عليها الرجل القوي في الحزب، النائب أسعد حردان، رغم اعتراضات قوميين كثر، من داخل المؤسسة الحزبية وخارجها. لكن، وبعد هزيمة لائحة حردان (فاز، منفرداً، بعدما تُرك له مقعد شاغر في اللائحة المنافسة)، قرر رفض النتيجة. صدمة الكثير من القوميين وقعت بسبب لجوء الفريق الخاسر إلى القضاء اللبناني، للطعن في شرعية الانتخابات الحزبية. والاحتكام إلى العدلية اللبنانية يكاد يرقى إلى مستوى المحرّم في الحزب القومي. فمن جهة، مؤسسات «العدالة» اللبنانية هي التي حاكمت، صورياً، زعيم الحزب أنطون سعادة وقضت بإعدامه، وهي التي نكّلت بالقوميين طوال العقد السابع والنصف الأول من العقد الثامن من القرن السابق، وصولاً إلى إصدار حكم بإعدام الأمين حبيب الشرتوني والراحل نبيل العلم عام 2017 بسبب اغتيال بشير الجميل. ومن جهة أخرى، فإن للحزب مؤسساته الدستورية التي يلجأ إليها القوميون لحل خلافاتهم. وهذه المؤسسات، وعلى رأسها المحكمة الحزبية، شكّلت في السنوات الأخيرة درعاً لحماية «القومي». فهي، على سبيل المثال، منعت حردان من البقاء رئيساً خلافاً لدستور الحزب. يحاجج أنصار نائب مرجعيون بأنهم اضطروا إلى اللجوء إلى القضاء اللبناني، لأن القيادة الحزبية الجديدة حلّت المحكمة الحزبية التي سبق أن عينها حردان بديلاً من تلك التي منعت عودته رئيساً. وترد القيادة الحزبية الجديدة بأن المحكمة لم تكن قادرة على النظر في الطعن بالانتخابات الأخيرة، المقدّم من فريق حردان، لأن عدداً من أعضائها كانوا معنيين بالانتخابات، ولا يجوز لهم النظر في الطعن بها.الجدال حول شرعية المحكمة الحزبية السابقة للنظر في الطعون، يبدو - على أهميته - فرعياً. الأصل هو في أزمة عميقة تضرب الحزب، وتهدّد وجوده وبنيته. وهذه الأزمة متصلة، حالياً، بأمرين؛ الأول، دور الحزب، سياسياً وعقائدياً، في زمن التطبيع والتشرذم. أما الأمر الثاني، فيختص بأسعد حردان نفسه. صحيح أن الحزب يعيش صراعات دائمة، كادت تصبح جزءاً من هويته، لكن منذ ثلاثة عقود، يقف حردان في وسط هذه الصراعات، وفي أحيان كثيرة، يكون هو محورها. ومنذ تسوية توحيد جناحين من الحزب في تسعينيات القرن الماضي، كان حردان العراب الأول للتسوية، وفي الوقت عينه، العنوان الأول للانقسام، سواء بين جناحي «الوحدة»، أم بين التنظيم الحزبي والقوميين الذين يرفضون العودة إلى الحزب أو دخوله ما دام نائب الجنوب هو الرجل القوي المتحكم بالقرار فيه، بصرف النظر عن أحقية ما يطرحونه. الجديد في الأزمة الحالية هو أنها في قلب الفريق الذي كان محسوباً على حردان وحده. الذين فازوا في الانتخابات، بقيادة عميد الدفاع زياد معلوف، كانوا فريق العمل الحزبي الذي يستند إليه حردان. وفيما يتهم أنصار الأخير معلوف والقيادة الحزبية المنتخبة بالطعن فيهم عشية الانتخابات، يبدو أن القيادة الجديدة لديها ملاحظات جوهرية على أداء الرئيس السابق للحزب. وهذه الملاحظات متصلة بالعمل الحزبي، وبالأداء السياسي العام في لبنان. في الداخل «القومي»، يؤخذ على حردان تجميده العمل الحزبي الحقيقي، لمصلحة ثنائية التسوية مع جناح «المجلس الأعلى» سابقاً، والصراع مع الجناح نفسه. وفي السياسة العامة في لبنان، يعترض الفائزون في الانتخابات على إلغاء أي مسافة بين حزبهم وبين الجانب المعتلّ من «النظام» اللبناني. بالتأكيد ليس الاعتراض هنا على العلاقة مع حزب الله ومع سوريا، بل على صمت الحزب حيث يجب أن يرفع الصوت، كالاعتراض على المنظومة الفاسدة في لبنان، وعلى رفع صوته حيث يجب الصمت، كتسمية سعد الحريري رئيساً للحكومة، والإصرار على المشاركة في حكوماته.
في الجانب الحزبي أيضاً، فوّت حردان يوم 13 أيلول الفائت فرصة كبرى لانطلاقة جديدة في «القومي». الذين خسر أمامهم، ليسوا سوى «جماعته»، أو هكذا كان يُنظر إليهم. كثيرون من القوميين وأصدقائهم كانوا يرفضون النظر إلى الانتخابات الأخيرة إلا كـ«لعبة بين حردان وأنصاره». ولم يصدّق هؤلاء أن المعركة جدية، إلا بعدما وقف حردان حيث أجريت الانتخابات في أعالي المتن الشمالي، وغادر غاضباً. كان في مقدوره، باعتراف بعض أنصاره، القبول بالهزيمة، واحتضان الفريق الفائز. لكنه آثر شنّ حرب عليهم. معركة من الشائعات تطال الفائزين، وصولاً إلى حدّ تخوينهم في تقارير ملفّقة. وجد حردان عوناً له في السفير السوري علي عبد الكريم علي، وفي مسؤولين أمنيين سوريين. بعض أنصار النائب الجنوبي يستقوون برئيس مكتب الأمن الوطني، اللواء علي مملوك، ويعتبرونه سنداً لهم في وجه القيادة الحزبية المنتخبة.
بعد الانتخابات، طلب السفير السوري انتخاب حردان رئيساً للحزب القومي، فرفض الفائزون. ثم حمل مطلب إعادة الانتخابات فوراً، فرُفِض أيضاً. سعى النائب عبد الرحيم مراد، والوزير السابق حسن مراد، إلى حل بين حردان وخصومه، لكنهما لم يصلا إلى مبتغاهما. بات الملف اليوم في يد مملوك وحده.
موقف حردان ضعيف حزبياً، فهذه المرة، خسر جزءاً كبيراً من «أنصاره»


في الحزب، يتسلّح حردان بورقة القضاء اللبناني، وتحديداً لجهة الاستناد إلى قانون تمديد المهل، الذي يتيح للأحزاب والجمعيات تأجيل انتخاباتها (علماً بأنه كان المصرّ على إجراء الانتخابات!). وفي الأسابيع الأخيرة، اقترح رئيس المكتب السياسي في «القومي»، كمال النابلسي، مبادرة للحل، قبل أن «يستولي» عليها الرئيس السابق للحزب حنا الناشف، ليعرض إجراء انتخابات في أيار المقبل، بعد المؤتمر القومي. ينطلق الناشف من كونه رئيساً للمؤتمر، معتبراً أنه الجهة الشرعية الوحيدة في المؤسسات الحزبية. في المقابل، اقترحت القيادة القومية مبادرة للحل تقوم على الآتي:
- تقديم 29 اسماً ليختار منها حردان 6 أعضاء في محكمة حزبية تنظر في الطعون.
- انعقاد المؤتمر القومي في أيار المقبل. ورغم أن توصيات المؤتمر ليست مُلزمة، إلا أن القيادة الحزبية مستعدة لاعتبار توصياته ملزمة، ولإجراء انتخابات جديدة في حال أوصى القوميون بذلك.
منذ 13 أيلول، فشلت كل المبادرات في التوصل إلى حل. موقف حردان ضعيف حزبياً. فهذه المرة، خسر جزءاً كبيراً من «أنصاره». وبين القوميين، يصرّ كثيرون على أن عودته للإمساك بالحزب ستعني خروجهم، علماً بأن القيادة المنتخبة ترفض إقصاءه. لكن ذلك لا يدفعه إلى الاستسلام. على العكس من ذلك، يرى أنه في حالة غير حرجة، مستنداً إلى دعم يأتيه من دمشق. الرئيس بشار الأسد طالب بحفظ الحزب، وحفظ ماء وجه حردان. المعنيون بالملف في الشام وسفارتها في لبنان يحتاجون لا شك إلى مراجعة جدية للأداء منذ انتخابات القومي. الفريق الفائز ليس بعيداً عنها. على العكس من ذلك، هو من قاد عمل القوميين العسكري إلى جانب الجيش العربي السوري. وفي السياسة، القيادة الجديدة ملتزمة بخيار محور المقاومة. وإذا نظرت دمشق إلى حلفائها في لبنان، فهي ستجد جزءاً لا بأس به منهم مشتتين بين الإمارات وتركيا، فيما يكاد بعضهم يخجل بحلفه معها. حتى حزب البعث، تشتّت ذاتياً. هذه التجربة تفرض تعاملاً مختلفاً مع أزمة الحزب القومي، لا تنطلق حصراً من مصلحة حردان، بل تترك للقوميين وحدهم حق إدارة مؤسسات حزبهم. وقبل ذلك، قرار ينبغي أن يتخذه حردان بعدم أخذ «القومي» إلى انشقاق جديد بدأت ملامحه تلوح في الأفق، وبعدم التعامل بثأرية مع نتائج الانتخابات التي أصرّ على إجرائها.
اليوم، يقف القوميون مجدداً أمام مفترق طرق. إما نهضة حزبية يحتاج إليها محورهم وبلادهم، وإما المزيد من الشقاق. وفي الحالتين، من الجائز أن يُقال لحردان ما قيل يوماً لياسر عرفات: أنتَ المشكلة وأنتَ الحل.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا