لماذا تُحجب «الجديد» في الضاحية، ولا تُحجب «أم تي في»؟سؤال لا يطرحه فقط مشاهدون معترضون على حجب قناة «الجديد» منذ 11 شهراً عن شاشاتهم، بل عاملون في القناة نفسها. وصل الأمر بموظّفين في «الجديد» إلى حدّ نشر مقتطفات مما تبثّه زميلتهم «أم تي في»، ويعدّ مسيئاً لحزب الله، لسؤال مناصريه عن سبب سياسة الكيل بمكيالين. سلوك يتجاهل مثلاً شعبياً كبرنا عليه وهو «العتب على قدر المحبة». الجمهور الغاضب من «الجديد» لن تزعجه مواقف قنوات تلفزيونية لم تنصفه يوماً، في حين تجرحه «خيانة» قناة أحبّها وبنى علاقته بها محطة بعد محطة.
هذه القاعدة تسري على كلّ وسائل الإعلام التي تشهد الانتقاد الأقسى دائماً من «جمهورها التقليدي». ومن تابع انتقادات المعترضين على أداء قناة «الجديد» منذ بدء تغطيتها لانتفاضة 17 تشرين، أمكنه الاستنتاج أن منتقديها، من الموافقين اليوم على حجبها، كانوا منزعجين من «قمع» مراسلي القناة للمواطنين الراغبين في تحييد أمين عام حزب الله عن شعار «كلنّ يعني كلّن»، رافضين اعتبار هذا الأداء عفوياً. انتشرت فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي تُبرز «تجاوزات» مراسلي القناة، مترافقة مع حملة واسعة استمرّت لأشهر تحت شعار «دكانة الجديد» و«قناة الفتنة» و«المنبر المأجور» إلخ. عزّز شعورَ المنتقدين طريقةُ تعامل القناة مع خطاب السيد حسن نصر الله الذي ألقاه في اليوم الثالث لبدء الاحتجاجات، حين تساءلت «الجديد» في مقدمة نشرتها الإخبارية عمّا فعله حزب الله حيال زمرة الفاسدين «ثورة الحزب على الفساد كانت مع وقف التنفيذ، وإلّا لقدّم «حزب الله» وغيره من الممتعضين وزيراً واحداً أمام جلسة طرح الثقة». ولم يكن تعليق القناة على الخطاب الثاني أفضل بالنسبة إلى جمهور الحزب، حين انتقدت استخدام السيّد نصر الله مصطلح الحراك بدل الثورة، متسائلة بسخرية «بما أنه قد وصلت إليه محاضر ضبط عن المموّلين والجهات، عن سبب عدم إشراك الرأي العام فيها ولو قدّمها الأمين العام لتحرّكنا بأفواج إعلامية للاستقصاء عنها وجرّها إلى ساحة من ساحات التظاهر ومحاكمتها شعبياً»، وصولاً بعد شهر تقريباً، إلى تحميل حزب الله مسؤولية تعميم أرقام هواتف مراسلي «الجديد» ومراسلاته ومضايقتهم/نّ، مطالبة إياه ببيان إدانة.

محكمة منحازة
كان هذا الاتّهام كافياً لتفجير العلاقة. والقناة التي كانت تُحجب لساعات في بداية الانتفاضة، حُجبت تماماً، من دون أن يواجه هذا القرار اعتراضات كثيرة من المواطنين كما حصل في عام 2017. «حجب «الجديد» هو نعمة ثورة 17 تشرين»، يقول كثيرون من الراضين عن قرار الحجب، لأن «الثورة حسمت الموقف بعد سنوات من اللعب على الحبال». لم تكن «الجديد» لاعباً محايداً خلال تغطيتها للانتفاضة، وهذا طبيعيّ، لكنها أيضاً لم تكن شاهداً عادلاً. اختارت أن تلعب دور «قائد الثورة»، إلى حدّ أنها حجبت أو حدّت من ظهور شخصيات أساسية من السياسيين والناشطين على الأرض، لصالح فريق عملها. أنشأت محكمتها التي يمكن أن تطال أيّاً كان باستثناء حاكم المصرف المركزي وأصدقائه. وسجّلت مواقع التواصل الاجتماعي رصداً لكثير من المواقف التي تكشف هذه السياسة، في مقابل دفاعات بقيت ضعيفة من قِبل عاملين في القناة، خصوصاً عندما كان الأمر يتعلّق برياض سلامة.
كلّ سجال يقع بين القناة وجمهورها كان يُكسبها نسب مشاهدة أكثر ارتفاعاً


كان صعباً تصديق أن أفواج «الجديد» الإعلامية يمكنها أن تنشئ محكمة عادلة، وهي المتورّطة رسمياً في منح شرعية لمن باتت تنتقدهم. عودة إلى أرشيفها تكشف احتفاءها المستمرّ بالنائب حسن فضل الله، «سيّد ساحة النجمة على بياض» الذي لم يطالَب يوماً بطرح الثقة بأحد من الوزراء، وترويجها لعملية الاستدانة الأكبر بالعملة الأجنبية التي قادها وزير المالية السابق علي حسن خليل عام 2015 مبدية سرورها بـ«ثقة الأسواق العالمية بلبنان». هذان المثالان العالقان في الذاكرة عن خطاب «الجديد» (السابق)، بالإضافة إلى عشرات المقابلات المدفوعة الثمن التي أُجريت خلال فترة الانتخابات النيابية، من دون أن ننسى «الحلقات الخاصة» التي تطلّ بها بين وقت وآخر (الرئيس سعد الحريري، النائب جبران باسيل، النائب السابق وليد جنبلاط)، تؤكد ما نعرفه: «الجديد» ليست جمعية خيرية. المشكلة هي في أن الجمهور بدا كأنه لا يعرف، فكان يتفاجأ كلّ مرة، ليخوض على مدى سنوات معارك متفرقة مع قناة تُحسَد من منافساتها عليه. ولوقت قصير، كان يمكن القول إن هذه المعارك هي جزء من المشهد العام المطلوب، لأن كلّ سجال يقع بين الطرفين كان يُكسب القناة نسب مشاهدة أكثر ارتفاعاً، ويضاعف من حرارة «الحب» في ظلّ محاولات «إبهار» متبادلة قد تصل إلى إثارة مشاعر الغيرة من خلال تدليل محبوب آخر، فاختار الجمهور «أل بي سي آي» ووقع خيار «الجديد» على النائبة المستقيلة بولا يعقوبيان!

السياسة أولاً
لكن من هو هذا الجمهور؟ وهل يمكن تحديده فعلاً؟
تؤكّد غالبية الدراسات العلمية صعوبة تحديد جمهور الوسائل الإعلامية، وهناك من يقول بعدم وجود جمهور أصلاً، مثل هارولد لاسويل، أحد أوائل المنظّرين لعلوم الإعلام، والذي يعتبر أن الجمهور هو «مجموعة من الناس قد تجمعها مشاعر معينة، تتصرف كحشد، ولا تسمح بأي اختلاف معها».
هذه المشاعر التي يتحدّث عنها لاسويل، هي التي يمكن أن تدلّنا إلى جمهور «الجديد»: هو الجمهور الذي شعر بأن هناك من يتحدّث باسمه وبشراسة في أكثر من محطة، عندما عارضت NTV الرجل الأقوى في الجمهورية الثانية، أي الرئيس الراحل رفيق الحريري، وعندما وقفت مع المقاومة في الوقت الذي تخلّت فيه عنها الغالبية خلال حرب تموز 2006، وقبلَها عندما اتخذت مسافة من «انتفاضة الاستقلال» عام 2005، على الرغم من الجوّ السياسي والعاطفي الذي طغى بعد اغتيال الرئيس الحريري. بل ذهبت بعيداً من خلال محاولتها دحض روايات شهود الزور، والتشكيك بعمل المحكمة الدولية. الموقف السياسي هو الذي بنى العلاقة مع الجمهور ومشاعره، وليس شبكة البرامج التي تشكل عادة عماد الاستقطاب. بل إن ما حصل مع «الجديد» قد يكون عكسياً، فهي في محاولاتها توسيع دائرة انتشارها من خلال إنتاج برامج متنوّعة وقعت أكثر من مرة في محظور «استفزاز» جمهورها التقليدي كما حصل مثلاً عندما قدّمت «قدح وجمّ». هذا البرنامج الساخر تخللته فقرات لا يشبه مضمونها تاريخ القناة ولا سمعتها، مثل نظرتها إلى السوريين مثلاً، أو تجرؤها على المقدسات، أو ما وُصف بالسخرية من الإمام موسى الصدر، ما أثار أكثر من مشكلة: مع طرابلس ومع حركة أمل ومع السوريين. الطرابلسيون احتجّوا وهدّدوا بقطع البث فاعتذرت منهم القناة، وكذلك فعلت بذكاء مع «محبي السيد موسى الصدر»، في حين بقيت الأغنية المسيئة إلى اللاجئين السوريين من دون اعتذار لأن أحداً لم يهدّد القناة بشيء.
السياسة إذاً، هي العامل الأساسيّ في استقطاب «الجديد» للجمهور. وبما أن «الجديد» هي القناة الأبرز في تبنّي خيار المقاومة، بعد «المنار»، استطاعت أن تستقطب جمهور المقاومة بنسبة كبيرة وتبقيه وفياً لها. ولم يغيّر الموقف الذي اتّخذته ضد النظام السوري مع بداية الأحداث في سوريا مطلع عام 2011 كثيراً في العلاقة بين الطرفين، فبقيت الانتقادات التي ربطت موقف القناة بمصالح رئيس مجلس إدارتها تحسين خياط خجولة، وكذلك الأمر مع بروز ظاهرة الشيخ أحمد الأسير في عام 2012 واستضافته في حلقة خاصة (تعرّضت القناة لاعتداء، تلاه اعتذار من القناة عن التحريض الطائفي الذي مارسه ضيفها على هوائها)، إلى أن خرجت القناة بموقفها اللافت مع بدء الحرب على اليمن في أيار 2015 لتتهم حزب الله وأمينه العام بتأجيج الحروب والانجراف إلى التوتر لأنه (نصر الله) «عندما يمنّي اليمنيين بالنصر والقتال فإنّ دعوته تلك ستضرب يمنياً بأخيه اليمني».

«دكانة الجديد»
يومها ولد شعار «دكانة الجديد»، الذي أشعل حرباً على مواقع التواصل الاجتماعي بين القناة والمعترضين على أدائها من جمهورها من دون أن يتطوّر الأمر إلى قطع البث؛ القطع، كتدبير «عقابي» اتُّخذ مطلع عام 2017، بالتزامن مع بثّ القناة تقريراً يتناول نائب «حركة أمل» هاني قبيسي وما ورد في «قدح وجمّ» عن السيد موسى الصدر. حُجبت القناة نحو سبعة أشهر، على وقع قصف كلامي ناري في مقدمات أخبار كلّ من «الجديد» و«أن بي أن»، ولم يكن يمكن يومها تبرير هذا «العقاب» الطويل على أنه خيار الجمهور وليس قرار سلطة الأمر الواقع فقط، بخلاف ما هو حاصل اليوم. وبخلاف ما هو حاصل اليوم أيضاً، لا تبذل «الجديد» محاولات جدية للصلحة، بل يعكس خطابها تحوّلاً سياسياً لافتاً يؤشّر إلى وجود بديل مادي يمكّن من الاستغناء عن الجمهور، خصوصاً في ظلّ انهيار شبه كامل لسوق الإعلانات. يُضاف إلى ذلك أن الوصول إلى المناطق اللبنانية لم يعد مقتصراً على خدمة «الكابلات». حضور القناة على يوتيوب يحقّق لها نسب مشاهدة جيدة، ومردوداً مالياً، ما يشعرها بالقدرة على تعويض غيابها عن الشاشة الصغيرة بالانتقال إلى شاشة الهواتف الذكية. وللمفارقة، هي الهواتف نفسها التي يقود من خلالها منتقدو «الجديد» حملتهم عليها: رصداً وتشهيراً.
من دون أن نغفل أدوار اللاعبين السياسيين في رسم هذا المشهد، يمكن القول إن علاقة جديدة بين المؤسسات الإعلامية والجمهور تنشأ، عوامل القوة فيها بين الطرفين تقترب من التعادل حتى الآن، لكنها قد لا تكون النهاية في ظلّ التحوّلات المتسارعة التي لا يزال يشهدها القطاع.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا