موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون “البراغماتي” من حزب الله، كما وصفه بنفسه في مؤتمره الصحافي الأخير في قصر الصنوبر، وتأكيده ضرورة العمل معه لحل الأزمة العامة التي تعصف بلبنان، خيّبا أمل قوى سياسية محلية وإقليمية اعتقدت أنه سيتحرك وفقاً لأجندتها. ليس في هذا الأمر ما يثير الدهشة. هذه القوى - التي اعتادت أن يتم التعامل معها من قبل “الأم الحنون” باعتبارها وكيلها المحلي، الأقرب اليها “ثقافياً” وسياسياً بسبب العلاقات التاريخية التي تربطها بها - لم تدرك الى الآن ما تدخله التغييرات في موازين القوى المحلية والاقليمية والدولية، وكذلك وصول أجيال جديدة الى موقع صناعة القرار في بلدان الغرب، على سياسات هذه البلدان الخارجية. لكن الأكيد أيضاً هو أن التعديلات التي قد تطرأ على هذه السياسات عادة ما تلاقي مقاومة من داخل المؤسسات المعنية بها، نتيجة لوجود جماعات ضغط وكتل ما زالت متمسكة بالمقاربات السابقة لدواع أيديولوجية و/أو مصلحية، تعمل على التحريض ضد المقاربات الجديدة، عادة عبر تسريبات مقصودة لوسائل الاعلام لتعبئة الرأي العام ضدها، وتحاول عرقلتها من داخل المؤسسات أيضاً.هذا الواقع ليس محصوراً في فرنسا، بل يشمل جميع الدول الديمقراطية العتيدة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة حيث تتكرر المواجهات بين رئيسها دونالد ترامب ودولته العميقة حول ملفات متعددة، وأهمها العلاقة مع روسيا، التي يودّ الأول تعزيزها ويجابه بمعارضة شديدة من الثانية. المقالات التي بدأت تنشر في بعض وسائل الاعلام الفرنسية ضد حزب الله باعتباره «دولة داخل الدولة»، في الـ«نوفيل أوبسيرفاتور» مثلاً، وكذلك العرائض المطالبة بتصنيفه منظمة «إرهابية»، كتلك التي نشرت في يومية «لو فيغارو»، تندرج في إطار حملة منسقة من قبل جماعات المحافظين الجدد الفرنسيين، وهي تسمية استخدمها ماكرون بنفسه للإشارة الى أوساط فاعلة في وزارة الخارجية، واللوبي الصهيوني، هادفة إلى الضغط على الرئيس الفرنسي لعرقلة ما يعتبر انفتاحاً من قبله على الحزب. وبطبيعة الحال، فإن إسرائيل والولايات المتحدة تشجّعان مثل هذه الحملة.
أول حديث رسمي عن وجود محافظين جدد في دوائر الدولة الفرنسية صدر عن إيمانويل ماكرون بعد شهر ونيف على وصوله الى الرئاسة، في تموز 2017. قبل هذا التاريخ، لفت عدة باحثين الى النفوذ المتعاظم لهذه «الزمرة»، في وزارة الخارجية وبين الخبراء الاستراتيجيين العاملين لحساب وزارة الدفاع. لكن استخدام رئيس الدولة لهذا المصطلح - في مقابلة مع مجموعة من الصحف الأوروبية، لا الفرنسية وحدها، مخصصة للسياسة الخارجية التي ينوي اعتمادها، وعند تناوله التعامل الفرنسي مع الأزمة السورية وضرورة مراجعته - أعطى مصداقية أكبر لما كان يعتبر فرضية باحثين. عاود ماكرون الكرّة في مداخلته أمام مؤتمر السفراء في أيلول 2019، عندما أدان ما سمّاه “دولة عميقة” في وزارة الخارجية: «أنا أعرف أن لدينا نحن أيضاً دولة عميقة وأن رئيس الجمهورية قد يعلن عن مواقف لكن الاتجاه الرئيسي لديها سيرى أنه رغماً عن هذه المواقف فإن المفروض بالنسبة اليه، بما أنه يفترض أنه يمتلك الحقيقة، هو الاستمرار في السياسات السابقة». كان ماكرون يركز هذه المرة على السلبية التي يلمسها داخل المؤسسات تجاه جهوده للتقارب مع روسيا، ومحاولات عرقلتها من قبل هؤلاء. من الممكن القول إن هذه الجماعات نجحت، بفعل تقاطع حركتها مع الضغوط الأميركية والإسرائيلية، وتردّد ماكرون نفسه، في منع أي تعديل جدي للمقاربة الفرنسية للأزمة السورية. فامتلاكها لشبكة تأثير حقيقية في وسائل الإعلام وبين «صنّاع الرأي»، أي مجموعة من “المثقفين الاعلاميين” الذين يحتكرون عملياً القدرة على التعليق على التطورات في وسائل الاعلام الرئيسية دون غيرهم من أصحاب الآراء المختلفة، مكّنها من أبلسة الدولة السورية ومن جعل أي حوار معها خيانة للقيم الفرنسية «الأصيلة». لكن من المرجّح أنها لن تنجح في إفشال التقارب مع روسيا الذي ينظر اليه ماكرون، ومعه أقطاب في الدولة الفرنسية، على أنه مصلحة استراتيجية في سياق التحولات الدولية الراهنة.
صلات وطيدة تجمع المحافظين الجدد في فرنسا باللوبيات المرتبطة بإسرائيل والإمارات


شهرية «لوموند ديبلوماتيك»، في عددها الصادر في أيلول الحالي، نشرت مقالاً مهما للصحافي مارك أنديفيلد بعنوان “ايمانويل ماكرون والدولة العميقة” عرض فيه قصة صعود تيار المحافظين الجدد داخل مؤسسات الدولة الفرنسية وتعاظم نفوذهم خلال رئاستي نيكولا ساركوزي وفرنسوا هولاند الأطلسيَّي الهوى والمؤيّدَين لإسرائيل. باختصار، إن أنصار هذا التيار مقتنعون بأن إصرار فرنسا على الاستقلالية والتمايز عن الولايات المتحدة على المستوى الدولي بات يتناقض مع تراجع قدراتها ومع تغيرات في موازين القوى الدولية تفرض على أيّ حريص على مصالحها السعي لوحدة المعسكر الغربي في مواجهة صعود القوى غير الغربية كالصين وروسيا وتلك الاقليمية كإيران وتركيا. يلفت كاتب المقال، نقلاً عن دبلوماسيين سابقين، كإيف أوبان دو لا ميسوزيار، الى أن ماكرون لم يستبعد أنصار هذا التيار عن مواقعهم بعد وصوله الى السلطة، ما يعني أن قدرتهم على العرقلة ما زالت موجودة، لكنه يشير الى أن التعزيز الذي أحدثه لموقع الرئاسة وإشرافه المباشر على عدد من ملفات السياسة الخارجية، أضعف دور وزارة الخارجية لمصلحته.
ما لم يتطرق إليه المقال بشكل واف هو الصلات الوطيدة التي تجمع أقطاب المحافظين الجدد باللوبيات المرتبطة بإسرائيل والدول الخليجية، وبالإمارات تحديداً، النشيطة جداً والتي تمتلك واجهات «بحثية» وإعلامية وظيفتها تنسيق الجهود مع هذا التيار وإطلاق الحملات الإعلامية - السياسية المناسبة لمصالحها وتوجهاتها. وليس سراً أن بعض الصحافيين الفرنسيين المتخصصين في شؤون الشرق الأوسط يعملون لحساب هذه اللوبيات، التي تغدق عليهم بسخاء، وتربطهم علاقات «ود» بوزير الخارجية الإماراتي أنور قرقاش. وقد أشرف الأخير على إنشاء مؤسسة إعلامية ترأسها صحافية لبنانية عملت سابقاً في الإعلام الفرنسي في إطار استراتيجية هادفة إلى تقوية النفوذ الإماراتي في الأوساط السياسية الفرنسية بالتعاون مع الجهات الصهيونية النافذة. الحملة التي بدأت ضد الانفتاح على حزب الله في فرنسا تندرج في هذا الإطار، وهي تتقاطع مع تلك التي تشنّها شخصيات وأطراف لبنانيون، من المرجّح أنهم يحظون برعاية وتشجيع نفس الجهات التي تسهم بقوة في الأولى.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا