برزت نسخة مسرّبة من تقرير «ديلويت» و«ارنست أند يونغ» المتعلق بتدقيق حسابات مصرف لبنان عن عام 2018. صدر هذا التقرير في 30 حزيران الماضي ليثبت ما كان متداولاً عن قيام مصرف لبنان بعمليات غير عادية لإطفاء خسائره، وأن شركتي التدقيق «ديلويت» و«ارنست أند يونغ» تحفظتا على إبداء الرأي في حسابات مصرف لبنان الذي يقوم بممارسات غير عادية. كان لافتاً تسرّب هذا التقرير بالتحديد بعد أسابيع على صدوره. لعلها النسخة الأولى من حسابات مصرف لبنان التي أُخرجت إلى العلن بعد غموض اكتنف هذه الحسابات لسنوات طويلة. قبل هذه النسخة، كل ما كان معلوماً عن حسابات مصرف لبنان بضعة أرقام، بعضها موثق وصادر عن لجنة الرقابة على المصارف، لكنها ليست مدرجة في إطار شامل للحسابات. كانت هناك تقديرات وتحليلات تحوّلت اليوم إلى حسابات موثقة. ورغم أن آلية التوثيق المعتمدة هي عمليات التدقيق في حسابات مصرف مركزي، إلا أنها تبقى أوضح من كل الأكاذيب التي مارستها السلطات النقدية على مدى السنوات الماضية.من أبرز المسائل التي وردت في التقرير أنه في آب 2017 اتخذ المجلس المركزي لمصرف لبنان قراراً بمنح المصارف قروضاً وفق ترتيبات محدّدة بفائدة 2%، ثم أعيد توظيفها لدى مصرف لبنان مقابل الاستحواذ على الدولارات، ومن دون أن تذكر معدلات الفائدة. وقد تكرّر هذا الأمر بشكل مختلف نسبياً في عام 2018، إذ إنه «بناءً على موافقة الحاكم»، منحت المؤسسات المالية قروضاً في إطار الترتيبات نفسها للقيام بعمليات بالدولار تتضمن: شراء شهادات إيداع، شراء سندات يوروبوندز، عمليات قطع، ودائع بالعملة الأجنبية. الهدف من كل هذه العمليات، كما ورد في التقرير، «زيادة الاحتياطيات بالعملات الاجنبية». وفي النتيجة، بلغت قيمة رصيد هذه العمليات 21.7 مليار دولار جمعها المصرف المركزي مقابل قروض بقيمة 41765 مليار ليرة، أي أعلى من القيمة الموازية لهذه الأموال بنحو 8949 مليار ليرة. في السنة التي سبقت جمع مصرف لبنان دولارات بقيمة 5.27 مليارات دولار مقابل قروض منحها للمصارف والمؤسسات المالية بقيمة 9933 مليار ليرة، بينما كانت القيمة الموازية لما جمعه 7946 مليار ليرة.
ما هي نتيجة هذه العمليات؟ عملياً، مصرف لبنان طبع الكثير من النقد لتنفيذ هذه العمليات التي تتضمن عمليات قطع وتبادل وأمور أخرى. بعض هذه العمليات يؤمن إيرادات، أو يكبّد خسائر. وبعيداً من التعقيدات المالية والمحاسبية التي تتعلق بهذه العمليات، فإن مصرف لبنان طبع النقد واشترى به أصولاً (سندات خزينة أو غيرها) وسجّل هذه العمليات على أنها إيرادات. ثم استعمل الإيرادات من أجل إطفاء خسائر. ويشير التقرير إلى أن مصرف لبنان اعتمد منذ عام 2007 سياسات الاعتراف بما يسمّى «سينيوريج» على الإصدارات النقدية، وسجّل مقابلها أصولاً والتزامات بقيمة 12941 مليار ليرة، من بينها 229 مليار ليرة سجلت في عام 2018، من بينها 400 مليار ليرة في 2017. ويشير التدقيق إلى أن مصرف لبنان أطفأ التزامات في هذه الحسابات بقيمة 11818 مليار ليرة ناتجة عن خسائر مسجلة في سنوات ماضية. هذه هي العمليات التي نهاه صندوق النقد الدولي عن القيام بها، أي توزيع الخسائر على سنوات مقبلة وإطفاءها عبر عمليات طبع العملة.
الحسابات يتحكّم فيها شخص واحد على مزاجه وليس وفقاً لأي معايير محاسبية


ويبدو واضحاً أن هذه العمليات بدأت بقيم كبيرة في عام 2015. لكن المثير للاستغراب انها ذكرت بالاستناد إلى قرار المجلس المركزي في 27/1/2016! لا يعلق التقرير على ذلك، لكنه يشير إلى أنه خلال عام 2015، وبالاستناد إلى قرار المجلس المركزي لمصرف لبنان بتاريخ 27 كانون الثاني 2016، المصرف اعتمد عمليات «سينيوريج» إضافية على العملة بقيمة 5930 مليار ليرة من أصل 6447 مليار ليرة مسجلة في نهاية 2015. التبرير اللاحق للعمليات هو أمر يقوم به حاكم مصرف لبنان، لكن كيف انطلى هذا الأمر على شركتي تدقيق عالميتين؟
على أي حال، إن العمليات المسماة «سينيوريج» تضمنت أيضاً منذ 2009 سياسات إطفاء للخسائر مقابل سندات الخزينة بالعملات الأجنبية. هي نفسها السندات التي سجّل التقرير أن التجارة فيها من قبل مصرف لبنان كبّدته خسائر رأسمالية صافية بقيمة 54.1 مليار ليرة. المهم، أنه في 2013 دفع البنك المركزي عن الدولة أموالاً بالعملات الأجنبية مقابل سندات يوروبوندز، وفي 2014 تبنّى عمليات مماثلة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية. في النتيجة، باتت قيمة هذه العمليات التراكمية في حسابات مصرف لبنان نحو 75947 مليار ليرة في نهاية 2018، مقارنة مع 65439 مليار ليرة في نهاية 2017. ومصرف لبنان أطفأ خسائر بقيمة 18081 مليار ليرة في عامي 2017 و2018 من أصل الالتزامات المحمولة مقابل نفقات الفوائد والأكلاف المالية.
وفي 11 نيسان 2018، اعتمد مصرف لبنان عمليات مماثلة بهدف «الاستقرار المالي». ويقول التقرير: «الحاكم وحده يحدّد قيمة السينيوريج الناتجة من عمليات الاستقرار المالية كما يراه بنفسه مناسباً». قيمة هذه العمليات 10270 مليار ليرة (عملياً هي قيمة الخسائر المطفأة).
هذه العبارة الواردة في التقرير هي العبارة السحرية التي تشير إلى أن الحسابات يتحكّم فيها شخص واحد على مزاجه وليس وفقاً لأي معايير محاسبية ومالية. لذا، فإن كل عمليات التدقيق المالي ليس لها محل من الإعراب، بل إن الأمر منوط بالتدقيق الجنائي المتخصص الذي يكشف الوقائع بشكلها العميق ويفتح الباب أمام معرفة مسار كل هذه العمليات من ألفها إلى يائها، وليس مدى انطباقها على المعايير المحاسبية. يجب معرفة الخلفات، والتحقيق بالدوافع وتفاصيل العمليات المنفذة وكل ما دار حولها.