«النظام الاقتصادي اللبناني هو نظام حرّ»، عبارة تتكرر كثيراً على لسان غالبية أصحاب رؤوس الأموال وشركائهم من السياسيين، في مسعى للحفاظ على امتيازاتهم، بالاستفادة من نظام ليس حرّاً أبداً. وعلى تلك «الكذبة» بنى الاحتكاريون ثرواتهم، واستطاعوا على مرّ السنين التسويق لهذه الأسطورة متغنين بالتنافسية الكاملة والأسواق المفتوحة، فيما الواقع أن أحد أبرز عناصر تدمير الاقتصاد اللبناني هو قيام «جمهورية الاحتكار»، بحماية تشريعية، ما أسهم في تضييق السوق الاقتصادية وتوسع الوكالات الحصرية. وقع المستهلك ضحية تحكم شبكة من رجال الأعمال والسياسة في أسعار السلع. تغيرت الحكومات والبرلمانات، لكنّ أحداً لم يمس بالسوق الاحتكارية. منذ سنوات، يُحكى عن قانون للمنافسة سيبصر النور. بقي الأمر كذلك الى حين إعداد وزير الاقتصاد السابق منصور بطيش، بالتعاون مع المديرة العامة السابقة للوزارة عليا عباس، مشروع قانون للمنافسة.
(مروان طحطح)

في الأصل، من شأن قانون المنافسة أن يمنع تاجراً أو اثنين أو أكثر من احتكار سلعة معينة، أكانت محلية أم مستوردة، بشكل يسمح لأي طامح في التجارة باستيراد أو بيع البضائع مهما كان نوعها وعلامتها التجارية. بمعنى أوضح، لن تعود السيارات، من أي ماركة كانت، حكراً على شركة مستوردة واحدة لكل «طراز»، ولا قارورة الغاز السائل حكراً على شركة...
من المهم الإشارة هنا الى أنه لا دراسات فعلية عن الاحتكارات والوكالات الحصرية سوى تلك المعدة في العام 2003 بتمويل من الاتحاد الأوروبي، أظهرت أن ثلثي الأسواق اللبنانية تتّسم بطابع احتكاري. أما الشركات التي تحظى بأكثر نسبة مبيعات فتعود الى شركات استيراد المحروقات والصناعات المرتبطة بها وعددها 14، فيما كانت تسيطر 5 شركات على قطاع الغاز المنزلي، وشركة واحدة على 45% من سوق المشروبات الغازية، و5 شركات على الحصة الأكبر في سوق الأدوية، و5 شركات على قطاع الأسلاك والكابلات، و3 شركات على الحصة الأكبر من طلاء المعادن، و3 شركات تحتكر سوق الاسمنت، ونحو 5 شركات تتصدر الحصة السوقية للنفط والغاز، و20% من كبار المزارعين يسيطرون على 73% من السوق الزراعية. أما الوكالات الحصرية، فتتضاعف يومياً، وسط حماية طائفية كادت تشعل حرباً أهلية عند طرح إلغاء الحماية القانونية لها، بحجة المسّ بمصالح الطائفة.

السياسة في خدمة الاحتكار
البلد كله يرضخ لمجموعة من الامتيازات منذ عشرات السنين، بحماية من السياسيين ومجلس الوزراء والمجلس النيابي، وبعضهم شركاء أساسيون في هذا السوق. في أواخر العام الماضي، أنجز بطيش مشروع قانون المنافسة وأرسله الى الأمانة العامة لمجلس الوزراء. كان من المفترض أن يعمد وزير الاقتصاد الحالي راوول نعمة الى سحب المشروع ودراسته إذا ما كان من تعديل يذكر لتحسينه وجعله أكثر ملاءمة مع الانهيار الاقتصادي الحاصل. الا أن نعمة الذي أدخل تعديلات طفيفة عليه لا تمس بالجوهر، نشره على الموقع الإلكتروني للوزارة طالباً من «المواطنين إرسال اقتراحاتهم حول مشروع القانون الى البريد الإلكتروني بحلول 12 حزيران» (الماضي). انقضت المهلة فعلياً، غير أن وزير اقتصاد وضّب مشروع القانون في أدراج الوزارة بدلاً من إرساله مجدداً الى مجلس الوزراء، لا لشيء سوى لرضوخه لـ«الهيئات الاقتصادية» التي يمكن وصفها بتجمّع للمحتكرين. ففور شيوع خبر سحب المشروع لدراسته، جنّ جنون رئيسها الوزير السابق محمد شقير، وبدأت جولة الضغط لتفريغ القانون وتطييره، حماية لمصالح شقير ومن يمثلهم.
يرفض شقير قانون المنافسة من مبدأ قضائه على مبدأ المنافسة والتنافسية!

الحجة هنا مضحكة، وأقرب إلى «النكتة» منها إلى أي شيء آخر. فشقير، وإثر زيارته لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري سعياً وراء حماية سياسية لرفض القانون، احتدّ على محاولة الحكومة «تغيير وجه لبنان الاقتصادي، فهوية الاقتصاد في لبنان ستبقى اقتصاداً حراً». إذاً، وفقاً للوزير السابق، قانون المنافسة الذي يفترض أن يشرع التنافسية ويطيح الاحتكارات والاتفاقات الممنهجة للهيمنة على بعض القطاعات ويجعل الاقتصاد أكثر «حرية» وأقل احتكارية، «يتناقض مع مبادئ الاقتصاد الحر وجوهر المنافسة والتنافسية». الأكيد أن «الهيئات الاقتصادية لن ترضى بأن تسير بكل هذه الأمور، لا اليوم ولا في الغد». هكذا، وبناءً على طلب هذه الهيئات بالتريّث في قبول المشروع، منحها وزير الاقتصاد مهلة شهرين «لكي يتسنّى لنا وضع آلية تعاون شفافة وفعالة لحماية المنافسة، ينتج عنها صياغة مشروع قانون بديل لحماية المنافسة وتعزيزها». ما تقدّم يعني نسف مشروع القانون من أساسه واستبداله بمشروع جديد تعدّه الهيئات الاحتكارية بنفسها، وبعنوان «تعزيز المنافسة».

لتخفيض الهيمنة الى 15%
أما في مضمون مشروع القانون، فهدفه الرئيسي، على ما تذكره المادة الأولى، «تحديد القواعد المنظمة للمنافسة في الاسواق، ومنع الممارسات المخلة بها، والقضاء على الممارسات الاحتكارية مع ضبط ومراقبة عمليات التركيز الاقتصادي، بما يحقق الفعالية الاقتصادية ويعزز الإنتاج والابتكار والتقدم التقني ويحقق رفاه المستهلكين». غير أن المادة التاسعة تحمل تناقضات في أسس تذليل الاحتكار من خلال توصيفها لوضع «المهيمن» في الفقرة (أ) ضمن 4 حالات، إحداها «إذا كانت حصته تبلغ أكثر من 35% على الأقل من مجمل السوق المعني». على أن نسبة 35% تعد نسبة عالية فعلياً، أو نصف احتكار. لكن اللافت أن الفقرة (ج) من المادة نفسها، تلغي سابقتها عبر القول إنه «يفترض بأن الشخص في وضع مهيمن في السوق إذا كان يمسك بثلث السوق على الأقل»، أي ما يساوي 33%! هذه الملاحظة وردت ضمن مجموعة ملاحظات وضعها رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو؛ فبرأيه، «لا يوجد قانون في العالم يحدد نسبة الهيمنة بالثلث. الرقم الاعلى هو 15%، كما في قبرص». الى جانب ذلك، يرى برو أن المشروع يحتوي على بعض المواد «الخطيرة» التي تفرغه من محتواه، والتي تعطي صلاحيات استثنائية لوزير الاقتصاد والمدير العام للوزارة، ومنها مراجعة وتعديل وسحب محاضر الضبط في الوقت الذي يجب أن تكون هذه الصلاحية للقضاء».

بطيش: على المشروع أن يأتي ضمن سلة إصلاحات مالية وأخرى لتحفيز الإنتاج الوطني

ففي المواد 15 و20 و25 يمكن للوزير إلغاء محضر ضبط بحق أحد المحتكرين، «لاعتبارات تتعلق بالمصلحة العامة»، مع حقه في «فرض تعويض عند الاقتضاء». هذه المواد، وفقاً لبرو، «تعطي الوزير صلاحيات استثنائية. وكثيراً ما تلجأ القوانين إلى هذه الصلاحيات للسلطة التنفيذية. هذا النمط الاحتيالي، خاصة في قطاع الدواء، استُخدم لسنوات طويلة مدخلاً للرشوة والفساد، إذ كان بعض الوزراء يُسعّرون الدواء حتى خمسة أضعاف السعر الحقيقي مقابل رشى من المستورد. وهذا ما سيحصل في المنافسة عندما يعطى الوزير صلاحيات تقرير مَن المحتكر ومَن المنافس. لذا، وجب إلغاء هذه المواد جميعاً وإلا فقد القانون محتواه». أما الأخطر في ما يتضمنه المشروع فهو المادة 68 التي تقول إنه «على كل شخص أن يقوم بتسوية أوضاعه وفقاً لأحكام هذا القانون خلال مدة لا تزيد على سنة من تاريخ نفاذه، وذلك بإلغاء أو وقف كل ممارسة أو اتفاق أو ترتيب قائم قبل هذا التاريخ أو بتقديم طلب لاستثناء أيّ منها من تطبيق أحكام القانون، في حال توفر شروط الاستثناء المحددة فيه». وذلك يتيح لأي طرف حق طلب استثناء والعودة الى مبدأ الاحتكار نفسه تحت ألف حجة وحجة. ويدعو برو الى «فتح باب الاستيراد كاملاً ومن دون أي عوائق، وإلا فَرَضَ المهيمن المحتكر أسعارَه، كما هو حاصل اليوم في كل القطاعات تقريباً».
للوزير السابق المعدّ لمشروع القانون وجهة نظر أخرى. فهذا المشروع هو محاولة للإصلاح من ضمن المنظومة القائمة: «حاولت إعداد قانون متوازن كي أضمن مروره لتحفيز الحركة الاقتصادية وخفض الأسعار. رغم ذلك، تحاول الهيئات الاقتصادية وغيرها إيقافه وإفراغه لصياغته على قياسها». واليوم، وفقاً لبطيش، هو أكثر وقت ملاءمة لإقراره سعياً وراء خلق أسعار تنافسية في ظل هذا الانهيار. المطلوب قبيل ذلك أن يكون هذا القانون جزءاً من سلة إصلاحات من ضمن برنامج التصحيح المالي تتضمن الإصلاح الضريبي، وقانوناً جديداً لضرائب الدخل أكثر عدالة وكفاءة يرتكز على ضريبة تصاعدية وصحن موحد لضريبة دخل الأسرة، وقوانين إصلاحية للحماية الاجتماعية كضمان الشيخوخة وتصحيح أنظمة التقاعد، وقانون المشتريات العمومية وقانوناً للجمارك، على أن تستكمل في موازاة هذه الإصلاحات «سلة من الإجراءات لتحفيز الإنتاج الوطني، وخصوصا في مرحلة شح الدولار، حتى نرفع إنتاجنا على حساب الاستيراد».