لم تبدأ قصتي، كما يقول جهاز «الشاباك»، عام 2008، عندما كان عمري لا يتجاوز ستة عشر عاماً. قصتي بدأت قبل أن أولد بتسع سنوات. يوم اجتاحت إسرائيل لبنان ووصلت إلى بيروت... كان والدي طلعت حمود شاباً متحمّساً منتمياً إلى حركة «أبناء البلد»، يتابع المجازر الإسرائيليّة المرتكبة بحق اللبنانيين والفلسطينيين، من جهة، وعمليات المقاومة الوطنيّة للرد عليها، من جهة أخرى. يحصل ذلك كلّه بينما يوّزع ورفاقه المناشير والمجلات سراً (كان توزيع المنشورات عملاً يكلف صاحبه السجن) لحضّ الناس على التظاهر ضد هذه الجرائم. قرر حينذاك، متأثراً بصمود عاصمة أصغر بلد عربي، أنه عندما يتزوّج ذات يوم ويُرزق بطفلة سيسميها بيروت!أتيت إلى العالم عام 1991، وأطلق والديّ عليّ هذا الاسم تيمّناً بصمود العاصمة التي هزمت إسرائيل. لا أعرف ما الذي كان يراهن عليه، ولكن ثمة دالّة تصاعدية في تاريخ بيروت المدينة ولبنان عامة، تشير إلى الارتفاع الدائم في منسوب العناد والصبر والمواجهة والقدرة على سحق الغزاة وهزيمتهم. على كل حال، أراد أن يكون لي من هذا الاسم نصيب، ولكنني أشك في أنه فكر في يومٍ من الأيام أنني سأترك جبال الجليل الخضراء وانتقل للعيش في لبنان، وها أنا منذ سبع سنوات أقيم في لبنان، وأعمل في جريدة «الأخبار»، في المدينة التي أشتمها مرات كثيرة بسبب زحمات السير وأشياء أخرى كثيرة. ولكن، لنتفق أنه رغم كل شيء...من الصعب ألا تقع في حبها.

لماذا انتقلت إلى العيش في لبنان؟
تعرّفت إلى زوجي بلال البزري في مؤتمر شبابي عقد في تونس عام 2012. تعمّقت علاقتنا، ووقعنا في الحُب، وهي «وقعة» طبيعية وعادية، يمكن أن تحصل لأي اثنين على كوكب الأرض. لكن الإشكالية تكمن في كوني من فلسطين المحتلة عام 1948، وبلال من لبنان... والمشكلة كبيرة، لا عندي ولا عند بلال، بل عند قوات الاحتلال طبعاً.
كنت على تواصل دائم مع بلال، والتقينا مرات في عمّان واسطنبول، كنت أعود بعدها الى منزلي في فلسطين. لكن، بعد ستة أشهر من ذلك، استدعاني جهاز «الشاباك» الإسرائيلي للتحقيق. السبب، كما قال ضابط «الشاباك» في أول تحقيق، هو أن لديهم «شكوكاً بأنني أعمل لصالح حزب الله». كنت يومها في الـ21 من عمري، ذهبت وحيدة إلى مركز «الشاباك». استمر التحقيق ساعات طويلة، وما زلت اعتقد أنه كان واحداً من أتفه التحقيقات التي مرّت على هذا الجهاز. لا أنكر أنني كنت خائفة في اليوم الاول، لأن تعرّضك لتهمة من «الشاباك» بالعمل لمصلحة حزب الله، (وأنت بالمناسبة لا تعمل شيئاً لا لمصلحة الحزب ولا غيره)، يعني سجناً ربما يمتد سنوات. وهناك قضايا كثيرة، بينها ما هو غير أمني، زجّوا فيها بأشخاص في السجن رغم براءتهم.
تركز التحقيق حول علاقتي بـ«حبيبي»، وهو - كما صنّفه «الشاباك» - «علماني أرسله حزب الله لتجنيدي للعمل لمصلحته». أمّا لماذا علماني تحديداً، فلأنه - كما شرح لي ضابط التحقيق - في عام 2008، وكان عمري ستة عشر عاماً، شاركت في المؤتمر الشبابي نفسه في المغرب، ضمن وفد فلسطيني من عشرة شبان وصبايا من حزب «التجمع الوطني الديمقراطي». وإذا عدنا إلى ذلك العام، فإن رواية «الشاباك» - الموجودة أصلاً في أرشيف وسائل الإعلام كافة - تقول إن «شخصاً من الوفد اللبناني، ينتمي إلى حزب الله، جنّد شاباً من أفراد الوفد… »! وهي قصة لا ناقة لي فيها ولا جمل، بدليل أنني لم أُجَرّ الى التحقيق مع بعض أفراد الوفد عام 2009. وبحسب الضابط «الحذق»، فإن وصفه لبلال بـ«العلماني»، أنني (أي أنا) لم أُعجب بـ«المرسال» الأول الذي «جنّد» الشاب كونه «متزمتاً وملتزماً دينياً». وبما أنني - كما يتخيّل الضابط نفسه - «منحلة الأخلاق وغير ملتزمة دينياً وأشرب الكحول... فعلى حزب الله أن يرسل لي من هو على مقاسي، لذا قام بإرسال بلال العلماني لتجنيدي»!. ما حصل يومها أنني أنكرت بقوة كل الاتهامات، ورفضت الشكوك التي أوردها الضابط، فطلب مني الحضور في اليوم التالي لإنهاء التحقيق.
عندما عدت إلى مركز «الشاباك» في عكا، فوجئت بضابط أعلى رتبة من الاول. قال لي: «عندما سمعتُ بقصتك أتيت من تل أبيب مباشرة للجلوس معك». نظرت إليه بدهشة ثم انفجرت ضاحكة، وقلت له: «شكراً لأنك ذكرتني بأيام مغامراتي في جبال تورا بورا مع أسامة بن لادن». حاول الضابط إقناعي بالخضوع لـ«جهاز البولغراف»، أو ما يعرف بجهاز كشف الكذب المعتمد في التحقيقات الأمنية والجنائية، ووعدني - في حال الموافقة - بأن يطلق سراحي وتسير الامور على ما يُرام...
كنت شابة صغيرة ولا أفهم بالتحقيق ولا بالبولغراف. قلت له: بما أن لي حرية الخيار فأنا أرفض... منذ ذلك اليوم (11/3/2013) حتى نهاية أيار من العام نفسه، انتقل التحقيق معي إلى مركز التحقيق الاقسى في سجن الجلمة، جنوب مدينة حيفا.. كانت جلسة التحقيق تمتد أحياناً لعشر ساعات متواصلة. في البداية، لم أكن أفهم أن ضباط الجهاز يقدمون لك الماء والقهوة والأكل لكسر الحاجز النفسي، فتناولت القهوة والماء، وحتى السلطة، في جلسة التحقيق الأولى. لكن ما حصل بعد ذلك هو أن حاجز الخوف انكسر بسبب يقيني بأنني لم أقم بأيّ من التهم التي تساق ضدي (وإن كانت تهماً أتشرّف بها). ثم قررت لاحقاً الامتناع عن الاكل والشرب الذي يقدمونه لي. وبما أنني كنت تحت التحقيق لساعات طويلة، كان الامر مرهقاً جداً... عدا عن عملية التفتيش التي كنت أخضع لها عند الدخول إلى معتقل الجلمة، كان التفتيش بمثابة انتهاك صارخ لجسدي العاري من شخص آخر ينظر إليه بحجة التفتيش عن أمر ما!
بعد جلسات عديدة من التحقيق، أُجبرت على الخضوع لجهاز «كشف الكذب» (البولغراف). لم تأتهم الآلة بجديد بعد ساعات من وصلها بجسدي، حتى إن ستة منهم اجتمعوا حولي ليفهموا إن كان هناك عطلٌ ما فيها! ولكن ما الذي سأقوله لضبّاط يعملون منذ عشرات السنوات في «الشاباك»، ومع ذلك لا يثقون بخبرتهم، ويطلبون من آلةٍ كهربائية فحص نبضي ليعرفوا إن كنت أكذب؟ على كل حال، ليست مشكلتي إن كان هؤلاء لا يثقون بأنفسهم وبقدراتهم. هذه، في الحقيقة، مشكلة إسرائيل التي توظف أشخاصاً بهذا المستوى من الكفاءة، وبهذه الدرجة المتدنية من الثقة بالنفس. وسرعان ما تحول التحقيق الى «صبحية» هدفها تضييع الوقت.
في إحدى المرات، قال لي كبير المحققين: «(السيد) حسن نصر الله الذي تحبينه مريض بالسرطان ويختبئ في حفرة وسيموت عاجلاً أو آجلاً... حتى إذا قصفَنا حزب الله بالصواريخ فستموتون أنتم تحت الركام، أما أنا (المحقق) فستأتي باخرة فرنسية لإجلائي إلى فرنسا لأنني أحمل جنسيتها». فأجبته: ««أنا أحب السيد حسن. لا يمكن للمرء أن لا يحبه ويصدقه. أنتم أعداؤه وتصدقونه... لست أنا من سيسبّب لكم الخسارة والوهن في أي حرب مقبلة. من سيقودكم إلى ذلك هو جندي قادم من لاتفيا أو ليتوانيا أو من أي بقعة أخرى، يسألني في المحطة المركزية للباصات في حيفا: في أي اتجاه عكا؟! كيف بربك يريد هذا الجندي محاربة حزب الله وهو لا يعرف اتجاه المدن في بلاده؟»!
كثيرة هي التفاصيل. أحياناً أجد عصيّاً على التصديق أن جهازاً أمنياً طويلاً عريضاً «مشهوداً له بخبرته وكفاءته تاريخياً»، لا يريد الاقتناع إلا بما يفكر فيه هو. القصة أنني فتاة فلسطينية أحببت شاباً لبنانياً، تزوجته وأنجبنا طفلاً. تقول له إن اللبن لونه أبيض، لكن يصّر على رؤيته أسود، هذه مشكلته. مشكلته النفسية العميقة، والمتجذّرة، مشكلة هذا الجلّاد الذي يظن أن من حقه تقرير المصير الشخصي لحياة الآخر: من يتزوج، من يحب ومن يلتقي. لم يعد ينقصنا من هذه «الحفلة» كلها إلا أن يتدخل فيقترح اسماً لمولودنا الثاني الذي ننتظره بشغف.
بعد نهاية التحقيقات التي لم تصل الى قاض في قاعة المحكمة، صارت الاستخبارات الإسرائيلية تصرّ بطلبي عبر الهاتف. لكنني قررت مغادرة فلسطين. هم يريدون مني التخلي عن حب حياتي تحت ذرائع أمنيّة غير موجودة. وأنا، حقيقة، لا أجد فرقاً بين لبنان وفلسطين. الأمر الغريب الوحيد في هذه القصة هو أن إسرائيل «حشرت حالها» بين دولنا! وبما أن لبنان، وكل بلد عربي آخر، هو بالنسبة إلي الامتداد الطبيعي لفلسطين ولشعب فلسطين، انتقلت في أيلول عام 2013 للعيش في لبنان، وهذا ليس سراً بالمناسبة.
وصلت الى لبنان وتزوجت من بلال، وبعد فترة بدأت العمل - ولا أزال - في صحيفة «الأخبار». وأعتقد أنه هُنا، في «الأخبار»، يكمن مربط الفرس. لماذا؟
قبل شهر اعتقل «الشاباك» صديقتيّ الطفولة والمراهقة، راية منّاع ومنتهى منصور، بحجة أنه «اكتشف» أننا التقينا لمناسبة رأس السنة في اسطنبول، وأنني قمت هناك بتجنيدهما. وأنا لا أفهم، الى الآن، كيف أنه بعدما أشار «الشاباك» الى أنه «اكتشف طرقاً جديدة للتجنيد خلال هذا اللقاء، وأن صديقتيّ أكدتا معرفتهما بي واللقاء بي». ثم أطلقت المحكمة سراحهما لأنها لم تجد ما تعتقلهما من أجله.
قال لي المحقق: إذا قصفَنا حزب الله ستموتون تحت الركام أما أنا فستأتي باخرة لإجلائي إلى فرنسا التي أحمل جنسيتها


اللقاء لم يكن سراً، ولم يكن صدفة، وقد تواصلنا قبله وبعده. وصورنا المأخوذة خلال رحلة اسطنبول منشورة على مواقع التواصل الاجتماعي منذ نهاية العام الفائت، صور للقاء تم بعد سنوات طويلة جداً من الشوق والحرمان... ثم، فجأة، وبعد ستة شهور على «الحادثة - اللقاء» اكتشف «الشاباك» أمر اللقاء، علماً بأن تفاصيله نشرناها نحن على صفحاتنا الشخصية في «فيسبوك» و«إنستغرام». أين هو الاكتشاف العظيم؟
لا يقف الامر عند هذا الحد، إذ بينما كنت وبلال نشتري ألعاباً لطفلنا الصغير، رّن هاتف زوجي، وهو مواطن لبناني غير خاضع لصلاحيات جهاز «الشاباك» ودولة إسرائيل ولا لقوانينهما، ويقول له من كان على الخط الآخر: «قول لمرتك مش تلم الغسيلات لإنه بدنا نحرق تحت... إنه إحنا بنعرف كل إشي وسلّم ع مديرك بحزب الله»، مهدّداً إياه بـ«مفاجأة». ثم ينشر «الشاباك» مقطعاً من المحادثة أول من أمس، علماً بأن المكالمة الكاملة هي نسخة طبق الاصل عن محادثات رجالات المافيا والمنظمات الإجرامية الذين يهددون بالقتل والسرقة والاعتداء... اعتقدنا أن الأمر مزحة ثقيلة من صديق ثقيل دم. ولكن ليس في حياتنا أصدقاء ثقيلو الدم على هذه الشاكلة.
بعدها، استدعى «الشاباك» أفراداً من عائلتي للتحقيق في عكا، وهددوهم بقطع أرزاقهم وحرمانهم منها لأن «ابنتكم تعمل مع حزب الله». جرّدوا أمي من جواز سفرها، ومنعوها من السفر ...وحاولوا منعها من التحدث معيّ! هل هناك دولة في هذا الكوكب تحاول حرمان أم من التحدث مع ابنتها؟! هذه ليست دولة وهذا ليس جهازاً أمنياً. هذا - على ما يبدو - مرحلة متقدمة جداً من الإفلاس...

لكن لماذا كل هذه الملاحقات؟
السبب هو أنني أعمل في صحيفة «الأخبار»، وأنني أقوم كغيري من الصحافيين الفلسطينيين والعرب والاجانب بفضح ممارسات الاحتلال. لكن ما أشعر هذا الجهاز بالأذية وأخرجه عن طوره كان غلاف «الأخبار»، في 28 أيار الماضي، بعنوان «جنود العدو يستذكرون كوابيسهم». وهي، بالمناسبة، قصص لم آت بها من «بيت أبوي»، ولم أخترعها في مختبر سري تحت الأرض، بل تحدث بها ضباط وجنود في الجيش الاسرائيلي خدموا في لبنان، وهي موجودة على صفحات في فايسبوك!
اتهم «الشاباك» سابقاً أشخاصاً كُثراً بالعمل مع حزب الله. وهؤلاء اليوم أسرى في سجونه، من دون أن تحصل كل هذه الضجة. أما أنا - كما يعترف بنفسه - فلم يجد تهمة ينسبها إليّ، ولا لصديقتيّ، فأطلق «صاروخاً إعلامياً»، ما إن تفجّر في وسائل الإعلام حتى كانت كاميرات وميكروفونات الصحافة العبرية تنتظر أسفل بيت أهلي لتقتات منهم تصريحاً إعلامياً. وطبعاً كيف بوسعِ أهلٍ أن يستوعبوا كل هذه الكميّة الهائلة من ضخ الأكاذيب؟ فما كان منهم إلا أن رفضوا التحدث.

ماذا أقول لضبّاط جهاز «مشهود له بكفاءته» ومع ذلك يلجأون إلى آلةٍ كهربائية لفحص نبضي ليعرفوا إن كنت أكذب


أما ما يريده «الشاباك» من وراء ذلك، فهو ببساطة منع أي تواصل بيني وبين أهلي وأصدقائي ومعارفي، وحتى مصادري الصحافية. يريد - كما نقول بالعاميّة - «حرقي» وحرق عائلتي. يريد التشهير بي، والتحريض عليّ وعلى عائلتي، هنا أو في فلسطين، وذلك عبر تخويف الاصدقاء من الاتصال بي أو التحدث معي لأنني «أجنّد الناس»! ولكن صاروخه الإعلامي الهزيل والتافه، الملحوق بتعليقات وصور لي ولطفلي ابن السنوات الخمس، جواد الجليل، على تابوت، وبتهديدات أنني سأقتل بصاروخ من السماء أو متفجرة في سيارة... كان لها وقعها المختلف. لقد انهالت مئات الرسائل التضامنيّة من «نص دين قلب» فلسطين، من أصدقائي القريبين إلى أصدقائي البعيدين، إلى أشخاص كنت أشك في إنهم كانوا يتذكرونني بعد هذه السنوات.
أيها «الشاباك»، لا أحد يصدّق روايتك الهزيلة... وها انا أتخيل رئيس الجهاز ندّاف أرغمان يقف، الأحد المقبل، أمام رئيس حكومته بنيامين نتنياهو، يقدم له الاحاطة الأمنية ويبلغه بفرح كبير: «لقد فضحنا بيروت حمود وزوجها بلال بيزاري (منذ عام 2013 أقول لهم إن اسمه بلال بزري ولكن حتى الاسم لا يعرفون لفظه)»… ربما سيحصل ذلك فعلاً، وعندما أتخيّل ذلك، أنهار من الضحك.