لم يعد المرء يعرف كيف يقرأ عدواً لئيماً مثل إسرائيل. في العقود السابقة، كان بعض من قادة العدو، السياسيين والعسكريين والأمنيين، يحظون بإعجاب، أساسه مهني بحت، لدى ألدّ أعدائهم. إعجاب بمثابرة هؤلاء على فعل كل ما يمكنهم لحماية كيانهم، وكل ما يمكن أن يجعلهم متفوّقين، ليس فقط بقدرات خارقة يوفرها الاستعمار الغربي، بل بدقة ومهنية تتيح لهم تحقيق إنجاز تلو آخر حتى تمكنوا من احتلال كل فلسطين وأجزاء كبيرة من الدول العربية المحيطة بها.لكن، يبدو أن آثار هزيمة العدو في لبنان، وتراجعه في فلسطين، أثّرا كثيراً في وعي قادة هذا الكيان. وخساراتهم لم تنتج أصلاً عن تخاذل قادتهم الميدانيين، بل بفعل ارتقاء أعدائهم الجديين في مقاربتهم لمقاومة العدو. هذه المقاومة تعلّمت الكثير من العدو، وابتكرت أدواتها في التخطيط والعمل. وقد عبّر قادة في المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، مراراً، عن حجم استفادتهم من الدروس الاسرائيلية في الأمن والعسكر والاستراتيجيا... الى أن وصلنا إلى لحظة تفوّق قوى المقاومة على العقل الاستراتيجي للعدو، حتى فقد توازنه ودخل مرحلة تخبط لا يزال يعيش فيها.
ثمة تحوّل جدي طرأ على الإطار المهني لمؤسسات العدو المركزية. تحوّل في طريقة معالجة الهزائم، وتراجع في مستوى التطوير والإبداع، مقابل ارتفاع منسوب الانفعال والتوتر، وصولاً الى وضعية الإنكار، والعيش في حالة رهاب على طريقة الانظمة العسكرية الديكتاتورية. فأصبح قادة العدو يلجأون الى حيل وألاعيب في محاولة، من جهة، لإقناع مواطنيهم بأنهم يفعلون المستحيل لحمايتهم، ومن جهة أخرى لأجل إعادة زرع الشك لدى الجمهور العربي بالقدرة على مواجهة اسرائيل.
كان الجميع يتندر، سابقاً، كيف كانت أنظمة وقوى وجبهات عربية ممن قرروا الاستسلام، تلجأ الى أكبر عملية تضليل لشعوبها وجماهيرها، إذ كانت أجهزة الاستخبارات في هذه الدول تعمل على بث دعاية عن بطولات وأعمال خارقة في مواجهة العدو، لإقناع هذا الجمهور بأن هذه الأنظمة أدّت قسطها للعلى، وأنه حان وقت تنحية البندقية جانباً. هكذا أطلّ علينا روائيون ومخرجون وممثلون بأفلام ومسلسلات وروايات حول «أمجاد» أراد المتخاذلون تعويض هزيمتهم النفسية بها أولاً، من خلال تصوير أنفسهم أبطالاً خارقين قاموا بالمستحيل، لكنهم عجزوا عن الحل الكامل، فقبلوا بالسلام رأفة بشعوبهم.
ما يحصل في كيان العدو منذ أكثر من عقد من الزمن، يكاد يكون استنساخاً لتجربة الأنظمة العربية المتهالكة. فها هي القيادات العسكرية والأمنية الإسرائيلية تتخبّط، فلا تنتج خطة ناجحة، هجوماً أو دفاعاً. وقد أظهرت الحروب العسكرية الأخيرة، في لبنان وفلسطين، والمعارك العسكرية والامنية بين هذه الحروب، أن الترهل أصاب المؤسسة الأمنية الاسرائيلية. فوقعت في فخاخ كثيرة، وتوهمت أنها تعرف كل شيء عن الأعداء. ولمن نسي، نذكّر بفضيحة الاستخبارات العسكرية الاسرائيلية في اليوم الاول من حرب تموز عام 2006. عندما نام قادة العدو على إنجاز «عملية الوزن النوعي» التي استهدفت بنك أهداف مواقع صواريخ المقاومة. ولم تكد تمر أيام، حتى أيقن هؤلاء أنهم «أكلوا الضرب» عندما استمرت الصواريخ تنهال على المستوطنات حتى لحظة إعلان وقف إطلاق النار. وللتذكير أيضاً، فقد نجحت حركة «حماس» في غزة، قبل نحو عام، في جرّ العدو الى فخ أمني، وأوهمته بأنه نجح في تفخيخ صواريخ المقاومة في غزة، ليستفيق على فضيحة أمنية انتهت بإمطار المستوطنات الصهيونية بالصواريخ.
مذّاك، بتنا نسمع عبارات جديدة في تحليلات كبارهم، مثل «اللايقين» إزاء نتائج أي مواجهة جديدة، وتعرّفنا الى إجراءات احترازية عند الحدود مع لبنان أو مع قطاع غزة، لا تنم عن معرفة وافية، بقدر ما تعكس قلقاً من مفاجآت المقاومين. وفي كل مرة، نكتشف أن المقاومة صارت تعرف عن العدو أكثر مما يعرف عنها، وأنها قادرة على تقدير خطواته أكثر من قدرته على التنبّؤ ببرامجها.
ما يحصل في كيان العدو منذ أكثر من عقد يكاد يكون استنساخاً لتجربة الأنظمة العربية المتهالكة


مذّاك، أيضاً، قرر العدو استنساخ تجربة الأنظمة العربية المتخاذلة، فصرنا نقرأ روايات ونشاهد أفلاماً ومسلسلات (تموّلها المؤسستان العسكرية والأمنية في إسرائيل بالتعاون مع الولايات المتحدة) حول «بطولات» جيش العدو وأجهزته الأمنية، ضمن سياق دعائي كمن يروّج لبضاعة يعرف هو - قبل غيره - أنها لم تعد رائجة.
لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل صار العدو يقترب من لحظة الضياع التي تدفعه الى ارتكاب حماقات وأعمال تعكس ضحالة مهنية غير مسبوقة. وفي هذا السياق، يمكن أن نقرأ ما حصل مع زميلتنا ورفيقتنا بيروت حمود وزوجها الرفيق بلال البزري.
قبل أيام، تلقّى بلال اتصالاً هاتفياً من رقم يعود الى بلد عربي. على الطرف الآخر، كان ضابط من جهاز «الشاباك» الاسرائيلي، قال له إن اسرائيل تعرف أنه يعمل وزوجته مع حزب الله. كذلك استدعى العدو أفراداً من عائلة بيروت ممّن لم يغادروا أرض فلسطين، وجرى التحقيق معهم عن علاقات ابنتهم وعملها في لبنان، قبل أن يعلن «الشاباك»، أمس، أنه أحبط عملية أمنية يقف خلفها حزب الله، وكان بلال وبيروت يتوليان تنفيذها، وتهدف الى تجنيد مواطنين من عرب الداخل للعمل في خدمة المقاومة. وطبعاً، أشار العدو الى عمل الزميلة بيروت في «الأخبار»، من زاوية أنه غطاء صحافي لعمل أمني. وهي سردية إسرائيلية مستمرة ضد «الأخبار» منذ صدورها عام 2006.
بيروت حمود شابة فلسطينية من قرية مجد الكروم في الجليل. لم يترك أهلها فلسطين بعدما احتلها الصهاينة، وقد سمّاها والدها بيروت تيمّنا بالعاصمة العصيّة على الاحتلال والكسر. التقت بيروت بلال، قبل سنوات، في مخيّم شبابي في إحدى الدول العربية، لتنشأ بينهما علاقة حب تطورت الى زواج، تركت بيروت بعده فلسطين للعيش في لبنان، وأنجبا صبيّا سمّياه جواد الجليل. تذكّر العدو أنه سبق أن حقق مع بيروت بعد عودتها من المخيم الشبابي، وتحدث عن هربها من فلسطين، واتهمها بأنها تعمل مع بلال، ضمن فريق تابع لحزب الله، في تجنيد فلسطينيين لمساعدة المقاومة، وهو الاتهام الذي وضع أمس عنواناً لبيان «الشاباك»، على خلفية لقاء تمّ بين بلال وبيروت وصديقات لها أتين من فلسطين للقائها في تركيا، حيث يمكن اللقاء، وحيث سبق لبيروت أن التقت عائلتها مرات عديدة.
لكن ما حصل قبل نحو شهر ونصف شهر، أن بيروت نجحت في الوصول الى حسابات على مواقع التواصل الاجتماعي، لجنود وضباط من جيش العدو قرروا نشر روايتهم عن هزيمة عام 2000 في لبنان. فجمعت المادة التي قرر جيش العدو حجبها عن جمهور عريض، لأنها تعكس حجم الهزيمة الكبيرة التي أصابت عقل ووعي وإرادة ضباط العدو وجنوده. ولـ«فشّ خلقه»، لم يجد العدو سوى استنساخ تجارب حلفائه من الحكومات العربية التي لا تعرف سوى القمع وتلفيق التهم، حتى صار المرء يشك في أن إسرائيل تأثرت كثيراً ببرامج عمل حليفها الأبرز محمد بن سلمان، أو رجالات أمن السلطة الفلسطينية. هكذا لجأ العدو الى أعمال صبيانية لن تغير من حقيقة أن بيروت ليست إلا صحافية تحب فلسطين، ولم تُخف يوماً حلمها باستعادة شعبها لأرضه وحكمه وقراره، وتفعل ما بوسعها لمقارعة العدو من خلال عملها كصحافية ناجحة. أما كل تأويل وترهيب وتهديد فلن تنفع معه كل محاولات التضليل وتركيب الأفلام.
من الغريب أن يجد المرء عدوه في حالة يرثى لها. ومن المفرح والمحزن، في آن واحد، أن تجد نفسك قبالة عدو اشتهرت أجهزته باحتراف استثنائي، ثم صارت ترتجل لإخفاء عجزها. وهو العجز الذي يدلنا على دخول العدو مرحلة الأفول، كمشروع ودولة وكمجتمع أيضاً.
يبقى أن من المفيد إيراد ملاحظات عابرة على بيان «الشاباك»، إذ يُقرُّ كاتبوه بأنه جرى التحقيق مع بيروت عام 2013 ولم توجّه اليها أي تهمة، وتمَّ تركها تتحرك بحرية. ويشير البيان الى أنه اكتشف طريقه العمل للتجنيد. وإذا ما حصل ذلك فعلاً، فلماذا أطلق سراح منتهى منصور وراية مناع. عدا عن كون «الشاباك العظيم» قد «تأكد» من علاقة بيروت بهما. فهل احتاج هذا الجهاز كل هذا الزمن لكي يكتشف علاقة بين جيران تعود الى أيام الطفولة؟ وهل اكتشف الضابط الذكي جداً أمر هذه العلاقة بعد ستة شهور على اللقاء الذي نشرت الصبايا عشرات الصور عنه على مواقع التواصل الاجتماعي كافة.
واضح جداً أن الهدف من هذه الجلبة هو قطع أي تواصل بين بيروت وأهلها وأصدقائها ومعارفها، وحتى مصادرها الصحافية. والسبب، مرة أخرى، هو انزعاج العدو من نشر التقرير عن استذكار جنود العدو لكوابيسهم في حروب لبنان.
لم يكتف العدو ببيان «الشاباك» فقط، بل شنّ عسسه حملة ضد بيروت على مواقع التواصل الاجتماعي، ولم تمر دقائق على إذاعة البيان، حتى كانت وسائل إعلام العدو تقف على باب عائلة بيروت التي طردتهم، ثم أكملوا مهمتهم القذرة لاحقاً بإرسال رسائل تحوي على صورها موضوعة على تابوت هي وابنها الصغير، وتهديدها بالقتل من خلال تفجير سيارتها أو حتى بواسطة صاروخ «متل العلما الإيرانيين»...
بيروت صامدة في بيروت، قلبها نابض بحب فلسطين، ورسائل التضامن والودّ التي وصلتها من الداخل أمس، كفيلة بأن تبقيها صامدة وقوية، وستحفظ هي وأولادها الطريق الى مجد الكروم، حيث لا يمكن لعدو طائش ومجنون أن يرفع جدراناً تقيه مصيره المحتوم!