دعت وزيرة الإعلام منال عبد الصمد في تغريدة لها أمس «الإعلام» إلى أن «ينأى بنفسه عن الصراعات وأن لا ينجرّ إلى الانقسامات الحزبية والطائفية وإلى توخّي الدقة في النقل بعيداً عن إثارة المشاكل والفتن». بغضّ النظر عن مضمون التغريدة، وموقع صاحبتها الموضوع على طاولة البحث منذ سنوات، تسترعي الانتباه التعليقات عليها والتي انقسمت بين مطالبين بمحاسبة الإعلام (قناة mtv تحديداً) وهم الغالبية، وبين متخوّفين من القمع، أو حريصين على حرية الرأي والتعبير. ذلك أن أصحاب وجهة النظر المدافعة عن المؤسسات الإعلامية رفضوا رمي التهمة على الإعلام بما أن مهمته «نقل ما يحصل» فقط. يعيدنا هذا الكلام إلى التهمة التي رافقت أهل الإعلام منذ بداية الحرب الأهلية في لبنان، وترافقه اليوم، وهي عن حجم مساهمتهم في تأجيج هذه الحرب. الردّ الوحيد على التهمة الجاهزة والممجوجة التي تُوجّه غالباً لإعفاء كثيرين من مسؤولياتهم: «الحقّ على الإعلام»، هو تذاكٍ بات ممجوجاً أيضاً: «نحن ننقل الواقع». قليلون هم الصحافيون الذين خرجوا بعد الحرب ليعترفوا بما اقترفوه. في حوارات مع صحافيين عاصروا تلك الفترة، لا نستمع منهم إلى تبرير من قبيل: كنت أنقل الواقع فحسب. هناك اعتراف واضح بأن وسائل الإعلام على اختلافها كانت شريكة في ما حصل، عن قناعة بالتغيير الذي تنتظره، أو امتثالاً لسياسات المموّلين.
منذ عام 2005، عادت تهمة «الحقّ على الإعلام» تنتشر يرافقها الردّ الجاهز أيضاً: نحن ننقل ما يجري. وأمس، اختارت قناة mtv أن تضيف إلى هذا الردّ دليلاً فنشرت، رداً على الحملة التي طالبت بمحاسبتها لأنها بثّت فيديو يتضمن هتافات مذهبية مسيئة، كما أعادت نشر فيديو قديم يتضمّن تحريضاً مذهبياً، توضيحاً ذكرت فيه بأنها لم تكن الوحيدة التي نقلت هذا الهتاف المسيء، فنشرت فيديو يظهر المشهد نفسه على قناة lbci. لم تلتفت القناة إلى أنها بهذا التوضيح قدّمت دليلاً على عدم مهنيتها في أحسن الاحتمالات، إذ يبدو واضحاً أن مراسلتها صمتت عند بدء الهتافات المسيئة، ثم قالت لزميلتها في الاستديو: «عم نحاول تقدر توصل أد ما كان الهتافات»، لتطمئنها زميلتها المحترفة في الاستديو، دنيز رحمة: «واضحة، واضحة الهتافات». في المقابل، يظهر فيديو lbci المراسلة هدى شديد وقد التفتت إلى حساسية ما يقال فأكملت كلامها ليغطي صوتها صوت الهتافات. موقف شهدنا مثله قبل وقت غير قصير، حيث كان المراسل الذي فرض احترامه على الجميع ادمون ساسين يمنع صدور الهتافات المذهبية، في حين تطلب مذيعة في استديو قناة أخرى من زميلها أن يستريح قليلاً من الكلام: «دعنا نستمع إلى الـ ambiance».
ملاحظتان تستحقّان التوقف عندهما تعليقاً على ما حصل:
أولاً: الردّ الذي يستعين به أهل الإعلام يمكن تقبّله من مراسل ميداني، أو من صحافي مبتدئ، يصدّق فعلاً أن المشهد الذي يراه وينقله هو الحقيقة. لكن أن يقوله مسؤولون في مؤسسات إعلامية، فهذا يعني أمرين: إما أنهم يكذبون، وإما أنهم لا يعرفون شيئاً عن مهنتهم ودورها. إذا عدنا إلى الهتافات المذهبية المسيئة، فقد كان يمكن وصفها بأنها أمر حصل. ويميّز المتخصصون بين أمر حصل وهو موجود في الواقع، وبين الحدث، وهو «أعلَمة» هذا الأمر، أي تناوله في وسائل الإعلام. بهذا المعنى، تكون وسائل الإعلام مسؤولة عن الأخبار التي ترتئي نشرها، أو تغطيتها، ولا يسمح لها باستخدام تبرير «أنا أنقل ما يجري فقط». وإلا فإن أموراً كثيرة حصلت أول من أمس، وكان يمكن أن تتحوّل إلى حدث منها مثلاً أن رجلاً مسناً قدم مشياً من الغازية إلى صيدا حاملاً بضاعته على كتفيه ليبيعها، وعاد مساء سيراً على الأقدام أيضاً من من دون أن يبيع شيئاً. ومنها أيضاً أن الطيران الإسرائيلي بقي يحلّق في الأجواء الجنوبية حتى ساعات الفجر الأولى وأن أهل المنطقة سهروا على «عنينه»، فيما الشاشات تنقل إليهم «اقتتال الإخوة» بسبب شعارات مذهبية مسيئة كان يمكنها أن تبقى «أمراً حصل» لولا أن الشاشات والهواتف الذكية حوّلتها إلى «حدث» استدعى ردود فعل وصلت إلى حافة الحرب.
يتنصّل أهل التلفزيون من آخر ما أبقته لهم التطوّرات التقنية أي شرح ما يجري


ثانياً: لا يشعر أهل التلفزيون بخوف على مستقبلهم. ففي ظلّ كلّ التغييرات الحاصلة في عالم الإعلام، لا شيء يمكن أن يطمئن الصحافي إلى مستقبله إلا حاجة الناس إليه، وإلى الثقة به. لكن للأسف، يتناقض سلوك المعنيين مع ما يفترض أن يقوموا به ليحافظوا على حضورهم وعلى الحاجة إليهم، لتكون وسائل الإعلام هي المنتهكة لمعايير مهنتها. معايير باتت تشكل أكثر من أيّ وقت حاجة وجودية لها. فتجدها تختار عوضاً عن تعزيز موقعها المهني، خوض منافسة مع مواقع التواصل الاجتماعي على كسب الجمهور وحصد علامات الإعجاب وإعادة النشر. ولا مانع عندها من إعادة بثّ فيديو قديم يحمل عنواناً طائفياً، وإرسال إشعار عنه عبر الهواتف الذكية، ثم محوه بعد افتضاح أمره.
ما يحصل أن وسائل الإعلام، ولا سيما القنوات التلفزيونية، تتنصّل من خلال هذا السلوك من آخر دور أبقته لها التطوّرات التقنية، وهو شرح ما يجري للناس. وهذا ينقلنا إلى ملاحظة ثالثة، وأخيرة، غير بعيدة تماماً عن الإعلام، وهي محاولة البعض الإشادة بوعي رجال السياسة الذين نجحوا في لملمة الفتنة أول من أمس، وكأن كلّ ما حصل منذ الإعلان عن تحرّك 6 حزيران كان عفوياً من قبل جميع الأطراف. التظاهرات هي واحدة من «المعارك» التي يخوضها السياسيون ويلجأون لإنجاحها (أو إفشالها) إلى كلّ ما يساهم في التعبئة، موحين للجماهير أنهم هم من يقودون التغيير. كيف كان يمكن سرد خبر التظاهرة، وبالتالي حشد كلّ هذا العدد من المراسلين لنقلها مباشرة (وصناعة حدث منها) لولا "السرديات" المتقابلة التي مهّدت لها بين الداعين إليها وبين المناهضين لها، وكيف يمكن إعفاء السياسيين من هذه السرديات؟
المؤسف أن ما حصل أول من أمس ليس جديداً، ولم يكن مفاجئاً. كلّ الجديد هو أن تاريخ 6 حزيران يدقّ مسماراً إضافياً في نعش 17 تشرين.