يختار البعض الاقتراض لمواجهة أزمة سيولة يُعاني منها، تمنعه من تأمين حاجاته الأساسية. فيستعين بالمصرف أو العائلة والأصدقاء أو مُرابين حتّى، للحصول على قرض يتعهّد بتسديده في مدّة زمنية مُحدّدة. يطمئن المقترِض إلى وجود عمله المُنتج من أجل تسديد الدين. يحصل ذلك ملايين المرّات يومياً، ويُعتبر جزءاً من عجلة الاقتصاد الطبيعية. فعنوان الأزمة في هذه الحالة، هو النقص في السيولة. في المقابل، يقف النوع الثاني من المقترضين. لا يملكون مدخولاً يُساعدهم في تخطّي الخسائر وتسديد الدين، مُتّكلين في كلّ الأوقات على الاستدانة ودفع الفوائد لحلّ مشاكل آنية، من دون التفكير في تبديل نمط حياتهم حتى لا يعودوا بحاجة إلى اللجوء لأحد. مُشكلتهم بنيوية، فحتى لو امتلكوا السيولة فسيُبدّدونها ويعودون إلى الاستدانة. الدولة اللبنانية هي هذا الشخص «الكسول»، الذي يُريد أن يمدّ رجليه طيلة الوقت، مُنادياً كبار المودعين الأجانب، والدول، والصناديق - التبعية - الإنقاذية، حتى يأتوا بالودائع والقروض. من باريس 1 إلى صندوق النقد الدولي، اعتُمدت الوسيلة نفسها، رغم ثبوت عدم فعاليتها. وبالعقلية نفسها، تلجأ الدولة حالياً إلى صندوق النقد الدولي.
(هيثم الموسوي)

في «الخطة الإصلاحية» التي وضعتها الحكومة، كُتب في المقدمة أنّ هناك «حاجة ماسّة إلى حزمة إنقاذ مالي للجم الركود وتهيئة الظروف المناسبة للانتعاش». البرنامج الحكومي مُصمّم لمحاكاة «المجتمع الدولي»، أملاً في نيل مساعدته المالية. وفي متن الخطة، يُحكى عن إعادة هيكلة الدين العام والقطاع المصرفي وتحسين الامتثال الضريبي وترشيد الإنفاق وإصلاح القطاع العام، وغيرها من الخطوات التي تقول الحكومة إنّها ستقوم بها، ولكن حبل النجاة الوحيد الذي تُعلّق الآمال عليه هو صندوق النقد وبدء تنفيذ مؤتمر «سيدر»، مع الرهان على أن «يُشجّع» هذان الأمران الدول الخليجية على إرسال ودائع مالية مُجدّداً إلى البلد. السعي «حثيث» لتأمين مصادر التمويل الخارجي من وسائل عديدة، لأنّه بحسب التوقعات نحن بحاجة إلى 33 مليار دولار لتخطّي الأزمة.
يوحي المسؤولون المحليون بأنّ الحصّة التي سيحصل عليها لبنان من صندوق النقد ترواح بين 8 و10 مليارات دولار على فترة خمس سنوات، أي بحدود مليار و600 مليون دولار سنوياً، علماً بأنّه استناداً إلى حسابات الخبير الاقتصادي كمال حمدان، «الكوتا» المُخصّصة للبنان، وحجم البلد واقتصاده، تسمح له بالحصول على قرابة 3 أو 4 مليارات دولار. وحتى هذا الرقم «الزهيد»، ليس من المضمون الحصول عليه، في حال لم يتم تطبيق «الإصلاحات». دولٌ أكثر استقراراً سياسياً وتبعية للولايات المتحدة الأميركية و«المجتمع الدولي»، كمصر والأردن، جرى تعليق دفعات من القروض المُحرّرة لها بسبب عدم الالتزام بالشروط الموضوعة. فماذا لو تأخّر صندوق النقد في دفع المبلغ، أو لم تصل المحادثات معه إلى أي نتيجة؟
يُجيب أحد المسؤولين الذين أسهموا في وضع الخطة المالية بأنّه «لم نُفكّر رسمياً بخطة بديلة، لأنّ هذا هو الخيار الوحيد المُتاح». هو رميٌ لجميع الأوراق في فم التنين. يُعقّب المسؤول بأنّه «في حال أقفلت في وجهنا نهائياً، فمن الممكن أن يكون لرئيسَي الجمهورية ومجلس الوزراء خيارات أخرى لم يكتمل تصورها بعد، كالتوجّه نحو الشرق»... بشرط أن تسمح الولايات المتحدة بذلك.
ولكن هل فعلاً لا يوجد بديل من برنامج مع صندوق النقد؟ «أي سؤال عن البديل أو الخيارات يجب أن ينطلق من الإجابة عن سؤال: أي أزمة نُواجه؟»، يقول أحد الخبراء الاقتصاديين، مُضيفاً أنّه إذا كان الجواب بأنّ لبنان يُعاني فقط من شحّ في الدولار، «يصحّ عندها ادّعاء الخبراء والمسؤولين بأنّه لا بديل من صندوق النقد».
قبل سنوات قليلة، كانت التدفقات المالية في أوجها، رغم ذلك لم تقف حائلاً أمام المسار الانهياري. فبين الأعوام 1993 و2018 دخل إلى لبنان أموال بقيمة 281 مليار دولار. هذه الأرقام ضخمة إلى حدّ «التنافس» مع حجم الودائع في دبي. ويُمكن مقارنتها مع «خطة مارشال» لإعمار القارة الأوروبية بعد الحرب العالمية الثانية، التي لم يُرصد لها أكثر من 170 مليار دولار، (وفقاً لأسعار السوق اليوم وليس لأسعار أربعينيات القرن الماضي). ألا يعني ذلك أنّ الأزمة لا تتعلّق بنقص العمولة؟ خاصة أن كلّ المؤشرات أشارت إلى أنّ لبنان مُقبل على أزمة في حال لم يتمّ تبديل النظام المعمول به. سنة 2010، كتب الأستاذ الجامعي ألبير داغر في «الأخبار» مقالاً يُحذّر فيه من أنّ «لبنان بات مُعرّضاً أكثر من أي وقت مضى لنشوب أزمة مالية فيه، تنجم عن انسحاب سريع للودائع من مصارفه، وذلك من خلال عملية تحويل كثيفة ومفاجئة للودائع بالليرة إلى الدولار وإلى الخارج». وفترة الركود الاقتصادي مُستمرة منذ الـ2011، من دون أن يُسجّل الناتج المحلّي الإجمالي (إجمالي الإستهلاك والاستثمار والإنفاق الحكومي وصافي التصدير والاستراد) نموّاً أعلى من 1% بالسنة في تسع سنوات. ازداد التضخمّ في الأسعار، وفقدت الأجور قيمتها، وارتفعت كلفة الدين العام، وباتت كلفة الاستيراد أكبر من قدرة تحمّلها، في مقابل نقص كبير في الإنتاج والنفقات الاستثمارية.
لذلك، يعتبر الخبير الاقتصادي أنّ «أزمتنا بنيوية وليست ظرفية. شحّ الدولارات هو النتيجة وليس السبب». والبديل من صندوق النقد لا يكون سوى «بإدخال تغييرات على بنية الاقتصاد السياسي والمالي والمجتمعي، تعفينا من طلب الأموال من الخارج». من بين الخيارات التي قد تُطرح «تخفيض الاستيراد من 15 مليار دولار إلى 5 مليارات دولار، وترشيد الاستهلاك». وبحسب أرقام الجمارك اللبنانية، تراجع الاستيراد بقيمة 2467 مليون دولار بين تشرين الثاني 2019 وآذار 2020 مقارنة بالفترة نفسها من عامَي 2018 - 2019. وانخفض العجز في ميزان المدفوعات من 1930 مليون دولار بين كانون الثاني وشباط 2019، إلى 505 ملايين دولار في كانون الثاني وشباط 2020.
فرض ضريبة 20% على حسابات الأكثر ثراءً تؤمّن 16 مليار دولار


المشكلة في هذا الطرح أنّ جزءاً مهمّاً من تركيبة المجتمع قائمة على التجارة، وتخفيض رأس المال التجاري سيكون موجعاً اجتماعياً، «لذلك يجب أن تترافق مع برنامج استهدافي يُقلّل عدد الضحايا ويؤمّن وظائف بديلة». الخيار الثاني هو فرض ضريبة على الثروة، «بدل التلهّي بمحاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، فلنُحقّق العدالة». المشكلة أنّ النظام القائم ليس مؤهّلاً لتنفيذ خطوة كهذه، «هذا اقتصاد يدفع إلى افتتاح مطاعم من دون أن يسعى لإقامة اقتصاد مُنتج يستوعب المُتعلمين الذين يُهاجرون». والإنتاج لا يعني حصراً زراعة المصطبة أمام المنزل كما يتمّ الترويج حالياً، «بل إضافة الاستثمار العلمي والتكنولوجيا وصناعة الأدوية والصناعات النانوية». التفكير بهذه الطريقة يُحوّل المسألة من طلب تمويل من صندوق النقد لتنفيذ برنامجه، «إلى إطلاق مفاوضات لجلب المال لدعم البرنامج المحلي».
خيار فرض ضريبة على الثروة يطرحه أيضاً المستشار السابق في البنك الدولي سمير الضاهر، إذ يعتبر أنّه يجب فرض ضريبة يُسمّيها «تضامن وطني»، يكون معدّلها 20%، وتطال حسابات فئة الـ1%. هذه العملية وحدها، قادرة على توفير 16 مليار دولار تُسحب من الأكثر ثراءً لتُوزّع على عامة المجتمع. لا يبدو مدير المركز اللبناني للدراسات، سامي عطا الله مُقتنعاً كثيراً بجدوى هذه الخطوة وحدها، «لنفترض أنّ شخصاً يملك 200 ألف دولار في البنك.

أزمة لبنان بنيوية وليست مالية، وشحّ الدولارات هو النتيجة وليس السبب

هذا المبلغ لم يعد موجوداً إلّا على الشاشة». يعتقد أنّه يجب فرض ضريبة تصاعدية «لبناء الاقتصاد والمجتمع»، وإذا جرى رفع الجهد الضريبي من 13.5٪ إلى 15٪ مثلاً (بحسب أرقام 2018)، «نتمكن من تحصيل مليار وربع مليار دولار تقريباً، أي قرابة 11 ملياراً على عشر سنوات، بقيمة أموال سيدر المنتظرة. ولكن في لبنان يُفضّلون الاستدانة عوض ضرب منظومات مُتحكمة وجباية الضرائب منها، أكانت الشركات الكبيرة وكبار المودعين أم من المرافق الخدمية كالمرفأ والكهرباء». يشرح عطا الله أنّ لبنان «يواجه أزمة تدهور العملة، والقطاع المصرفي، وميزان المدفوعات. الكارثة الاقتصادية اللبنانية لا مثيل لها مقارنةً ببلدان أخرى». بالوضع الحالي، لا يعتقد عطا الله وجود بديل من جذب أموال جديدة، «كأنّ هناك سفينة تغرق، الأموال هي حبل الإنقاذ، ولكن يجب اتخاذ إجراءات وإصلاحات للسباحة صوب الشاطئ». الاقتصاد المعمول به «لا يسمح لنا بأن نُنقذ أنفسنا وحدنا، فكلّ الحسابات الداخلية دفترية. الحاجة هي إلى ضخّ رأس المال» على أن يترافق ذلك مع «تغيير الماكينة المُستخدمة، أي ضخّ الأموال في القطاعات الإنتاجية». يتحدّث عطا الله عن تشريعات وسياسات «تضرب الاحتكارات لزيادة التنافس في السوق، ما يؤدي إلى تدني الأسعار التي يدفعها الناس. يجب إعادة النظر في الاقتصاد بعد أن خسرنا جيلاً للعشرين سنة المقبلة. أعداد المغادرين سترتفع، ما سيُضعّف رأس المال البشري، وبالتالي تنحصر دورة العمل بالوظائف الصغيرة. هذا أمر بنيوي لم يصل النقاش الرسمي بعد إليه».