في غمرة الانشغال بالكهرباء والانهيار الاقتصادي والمالي، يدخل لبنان مرحلة تحديات جديدة في ملف الحدود وقانون قيصر وتداعياته المحلية. وسط كل ذلك قيل كلام سياسي لم يأخذ حقه من النقاش، بفعل المهاترات والكثير من الشخصانية والعداءات الحزبية. لكنه يطرح إشكالات في توقيته، حين يبدأ الكلام عن خطط ومتغيرات لدول المنطقة في ظل التجاذب الإقليمي والدولي في ساحاتها. وبعيداً عن إطار التجاذب بين التيار الوطني الحر وحلفائه، وأولهم حزب الله، وخصومه، طرح رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في إطلالته الاخيرة جملة عناوين سياسية، غير تلك التي تناول فيها تقنياً الكهرباء والملفات المالية والفساد، وتحمل كثيراً من التأويل وتحتاج الى التدقيق. لكن طروحاته السياسية ضاعت في متاهة المماحكات، وقد يكون أيضاً بسبب المواقف من باسيل بشخصه، بعدما استجلب عداءات واستفزازات كثيرة، فغلبت ملفات الكهرباء والفيول المغشوش على ما غيرها، علماً بأن كلام باسيل، مرفقاً بما أورده نائب الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم، أعاد تقديم إطار سياسي للأزمة في لبنان، بصرف النظر عن اليوميات. لأن هذا يعني أن الأزمة لم تحل، بل لا تزال قائمة، منذ التسعينيات، وإن تبدلت أطرها والشخصيات المؤثرة فيها. حتى إن الكلام نفسه يعود يتكرر كلما استجدّ خلاف، مذكّراً بمظلة سياسية اسمها الطائف، وبالدستور وتشعباته وبنوده التي لم تنفذ بعد، وهي تشكل علة العلل وإمكانات الإنقاذ في الوقت ذاته. كذلك يظهر من دون التباس أن النقاش الحقيقي لا يزال في أيدي القوى السياسية وليس الحكومة، سواء تمثلت فيها أم لم تتمثل، ولا يعود الى أي من الجالسين على طاولة مجلس الوزراء.طرح باسيل عنوان تطوير النظام انطلاقاً من الدستور واتفاق الطائف، محدداً كبند أول اللامركزية. لكن اللافت في كلامه إضافته الى الإدارية، اللامركزية المالية الموسّعة. وهذا الطرح، مع ما يحمله من عناصر تمكين ذاتي، يعتبره بعض قارئيه أنه قفزة لافتة تسبق أي إطار فيدرالي. صحيح أن هناك تبريرات غطت الطرح، وأنه عاد الى نغمة معارك التيار لتحقيق المناصفة، إلا أن طرح اللامركزية، في توقيت اشتباك سياسي، وبعد سلسلة أزمات مالية وسياسية، ليس موقفاً عابراً. كما أنه يأتي استكمالاً لطروحات رئيس التيار السابقة والمستمرة في ما يتعلق بتعزيز هذا الاتجاه، ما برز في سلسلة خطب وكلام له. من هنا لا ينظر الى معركة سلعاتا على أنها معركة معمل كهربائي مطروح منذ عهد الرئيس الياس سركيس عام 1978 حين قامت الدولة باستملاك أراضيه، بل تصبح معركة حيوية كواحد من الامثلة العملانية على خيار أقرب الى الاستراتيجي. وتمسّك باسيل به مع محطة الغاز - مع وجوب الاعتراف بمنافع جانبية - يصبّ في اتجاه قديم تحت سقف اللامركزية الموسعة والمتفرعة منها عناوين عديدة. ورغم اتهام خصومه له بأنه طرحه لزيادة «عامل الاستثمار المسيحي»، يقول عارفوه إن خصومه المسيحيين توافقوا مع حلفائه من حزب الله وأمل، وصوّتوا ضده، لمجرد أن باسيل طرحه من دون الاخذ في الاعتبار وجود مثل هذه المحطة، إن على صعيد الكهرباء أو على صعيد التوظيفات، ما يعزز إنماء المناطق ومصالحها بدل حصرها مركزياً.
يُنظر إلى معركة سلعاتا من زاوية طرح اللامركزية الموسّعة لا مجرد معركة معمل كهربائي


لا يُنظر دوماً الى كلام التيار عن الطائف بإيجابية، خصوصاً أن خصومه وخصوم حزب الله يضعون الإثنين في موقع واحد في عدم التماهي معه. لكن باسيل عاد ليطرح مجلس الشيوخ وإلغاء الطائفية بحسب النص الدستوري، وقرن اللامركزية بدولة مدنية عبر اعتماد قانون موحد للأحوال الشخصية، طارحاً مرة أخرى تأييده المداورة في الوظائف. هنا، لا يحمل الرد أي التباس عند حزب الله، لأن قاسم كان واضحاً حين اتفق مع باسيل على الدولة المدنية إذا كان معناها «دولة وحدة الحقوق والواجبات بين الشعب، وتلغي طائفية المواقع لكنها تبقي الرئاسات الثلاث، وبعض المواقع فقط لطمأنة الطوائف، وإلا نحن مع المساواة مع تبديل مواقع الفئة الاولى». لكنه رفض رفضاً قاطعاً الدولة المدنية «إذا كان مقصود بها المس بالأحوال الشخصية»، متمسّكاً بـ«الأحوال الشخصية لكل مذهب وطائفة على حدة».
هذا التباين وإن لم يكن جديداً من الوجهة السياسية، إلا أنه يحمل في ظل أي خلاف أو ملف سجالي، طابعاً مختلفاً لأنه يعيد تظهير التباين في النظرة الى عناوين أساسية تتعلق بتركيبة البلد ومستقبل الحكم فيه، وخصوصاً أن كلام قاسم عن الأحوال الشخصية قد يجد حلفاء آخرين حوله. لا يصوّب باسيل على اللامركزية الآن فحسب، بل منذ مدة، انطلاقاً من رؤية للمستقبل. لا بل ثمة من يعتبر أن هذا الامر - وسلعاتا كتعبير عملاني عنه - هو بمثابة المعركة حول قانون الانتخاب. وأي انتكاسة لباسيل فيه توازي في أهميتها نتائج قوانين انتخاب غازي كنعان. الى هذا الحد يمكن النظر الى إمكانات التحول في قراءة مواقف القوى السياسية المسيحية، حتى في مقاربة تتعلق باحتمالات عودة الاصطفاف الطائفي والمذهبي، كما حصل في مشروع القانون الأرثوذكسي. من هنا يعيد أي خلاف بين الطرفين تعويم أفكار خلافية، تختفي وتعود في مراحل متفاوتة، لأن الأمر لا يتعلق هنا بالنازحين السوريين ولا بالمشرقية ولا بالانفتاح على سوريا، كملفات مرحلية، فيما الدستور والطائف وبنودهما يمثّلان عصب الحياة السياسية في رؤية كل طرف حقيقة لشكل النظام.