وجه جاف من التعابير. لغة ركيكة. خلفيّة سوداء. بضعة ملفات على الطاولة. هكذا كان مشهد الكلمة المتلفزة التي تلاها حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، أمس، مباشرة على الهواء. لعلّ رسالته الأبرز إقراره تنفيذ القيام بالكثير من الألاعيب بغطاء سياسي، من شطب الديون بفروقات الذهب غير المحققة، ومن هندسات مالية لـ«كسب الوقت»، وسواها من الأمور التي تمّت برضى مندوبي السلطة السياسية في مقاعد المجلس المركزي ومفوّض الحكومة في مصرف لبنان ووزراء المال المتعاقبين. رغم ذلك، حافظ سلامة على مسافة «عزل» بينه وبين الدولة، فبدا كأنه يعمل على جزيرة منفصلة تماماً ولم يكن تلك «الأسطورة» التي استعملت السياسات النقدية للإمساك بالسياسات المالية والاقتصادية. من أبرز الأمور التي تدلّ على مكانة سلامة وموقعه في بنية هذا النظام هو ما قاله حرفياً في افتتاح المؤتمر المصرفي العربي السنوي لعام 2012: «يعمل مصرف لبنان على تعزيز التسليف وتحفيزها بهدف زيادة الطلب الداخلي، حيث ستنمو التسليفات بنسبة 10% هذا العام، وذلك تداركاً منّا بأن النموّ وفرص العمل يأتيان من النجاح في توسيع حجم الاقتصاد اللبناني. ربما قد ينتج من ذلك زيادة العجز في الميزان التجاري وعجز في ميزان المدفوعات، إلا أنّ هذا العجز غير مقلق في ظل توفر سيولة مرتفعة بالعملات الأجنبية لدى القطاع المصرفي وموجودات من العملات الأجنبية هي الأعلى تاريخياً لدى مصرف لبنان».في ما يلي، بعض أبرز النقاط الواردة في كلمة سلامة وبعض الحقائق المتصلة بها، أي تلك التي أخفاها أو تحدّث عنها مواربة لتغطية نفسه وتغطية شركائه في السلطة:

مما قاله سلامة:
• أكّدنا ببيان واضح منذ أسبوعين مع مراجع وأمثلة عن مصارف مركزية أخرى أن ميزانية مصرف لبنان متطابقة مع المعايير الدولية للمصارف المركزية وتستخدم الأساليب نفسها التي تستخدمها المصارف المركزية في الخارج (تدوير الخسائر للمستقبل).
ــــ وقائع مناقضة:
تشير خطّة الحكومة التي أعدّت مع المستشار المالي «لازار» إلى أن تدوير الخسائر للمستقبل هو عملية متبعة في عدد من المصارف المركزية في العالم التي تنفذها خلال الأزمات ولفترة قصيرة، على عكس ما قام به مصرف لبنان من مراكمة للخسائر على مدى 20 سنة لتبلغ 42 مليار دولار.

مما قاله سلامة:
• البنك المركزي ينشر ميزانياته كل 15 يوماً ويضمّنها ملاحظات نضعها من أجل الشفافية، ومنها حسابات الأصول المختلفة التي حكي عنها والتي اعتبرت بأننا نخفي شيئاً في ميزانية المصرف المركزي وهي معلنة في ميزانيتنا كما هي موجودة في مصارف مركزية أخرى (…) تمويل الدولة وفق قوانين الموازنة وقانون النقد والتسليف، أدّى إلى وجود سندات بقيمة 5 مليارات دولار لليوروبوند وحساب مكشوف مع وزارة المال اسمه حساب الحصيلة، بحيث إننا دفعنا بالدولار عن الدولة اللبنانية، على أمل أن نستردّه بشكل ما، بمبلغ 16 مليار دولار، ونحن قادرون وما زلنا على تحمل هذه المبالغ، لكن في حال عدم عودتها الى مصرف لبنان، يتغير وضع ميزانيته وقدراته للتدخل في السوق.
ــــ وقائع مناقضة:
في عام 2009، كانت قيمة ما يزعم سلامة أنه «حساب مكشوف» مع الدولة اللبنانية 2.7 مليار دولار، لكنه بلغ 15.4 مليار دولار في 2019، ثم وصل إلى 14.8 مليار دولار في نهاية آذار 2020. هذا الحساب هو جزء من الأصول المختلفة التي أشار إليها سلامة وهو ناتج من عملية تحويل عملة. ففي كل مرّة تريد فيها وزارة المال تسديد مستحقات بالدولار للدائنين الأجانب، أو لتسديد ثمن دفعات فيول أويل أو سواها من العمليات التي تتطلب عملة أجنبية، توجّه كتاباً للحاكم تطلب منه تسديد قيمة الدين بالدولار بعد سحب ما يوازي قيمته بالليرة من حساب الـ 36. لكن سلامة، لم يكن يكتفي بهذه النهاية للعملية، بل فتح حساباً للدولة اسمه الحساب 100 (حساب الحصيلة) ويودع فيه كامل قيمة العملية بشقّيها السلبي والإيجابي. بهذه العملية يتمكن سلامة من نقل المبلغ المتوجب على الدولة من احتياطاته بالعملة الأجنبية إلى بند «أصول مختلفة» حيث يتوجب على الدولة المبلغ (بالدولار)، رغم أنها دفعت قيمته (بالليرة). كان يفترض بحسب الممارسات العالمية المتبعة أن يسجّل هذا المبلغ في قيود فروقات سعر الصرف ويطفئ هذه الخسائر بشكل سنوي في ميزانياته، لكنه انبرى للقول بأن له في ذمة الدولة أموالاً بالدولار. فلماذا هو البنك المركزي؟ وهل الدولة بإمكانها الحصول على دولارات؟ هل هي تاجر؟ أساس وظيفته تأمين العملة الأجنبية للدولة. هذا دور بديهي ولا منّة له على أحد فيه، أما تسجيل المبالغ الناتجة من عمليات صرف على أنها أصول فهي لعبة الألاعيب.
مما قاله سلامة:
• الفوائد المرتفعة التي يُحكى عنها والهندسات المالية التي تعتبر مؤشرات سلبية، أكلافها بالنسبة إلى الفوائد لدى مصرف لبنان مقبولة، وهذه الهندسات اضطررنا عليها ليكسب لبنان الوقت لإصلاح نفسه وهندسات 2016 أكسبت بعض الوقت للبنان وأوصلته إلى مؤتمر سيدر وإذا لم ينفذ فالمسؤولية ليست على مصرف لبنان لأن هناك قرارات كانت مطلوبة من الدولة لم تنفذ.
ــــ بمعزل عن اللهجة غير الوطنية التي تشير إلى أن جهات خارجية كانت تفرض أجندتها على الدولة اللبنانية، إلا أن اللافت في كلام سلامة عبارة «اضطراره». فهو من جهة تحدّث بمواربة عن جانب الأصول في ميزانيته، من دون أي حديث مباشر أو حتى تلميح بسيط عن جانب الالتزامات التي كان مضطراً إلى تغطيتها عبر توزيع الأموال على المصارف. لماذا كان مضطراً؟ ألم يكن بالإمكان التوقف عن الدفع كما يحدث الآن؟ ألم يكن الأجدى بشفافية سلامة أن تتفتّح لتكشف لنا عن كلفة هذه الهندسات السنوية والإجمالية وبأي عملة؟ ألم يكن الأجدى القول إن هذه الهندسات استقطبت ودائع الناس في المصارف وحوّلتها إلى خسائر؟ وإلا كيف تبخّرت هذه الأموال، ولماذا يعمل على دفعها بالليرة بدلاً من الدولار؟

مما قاله سلامة:
• في 24/4/2020 في ميزانياتنا هناك سيولة يمكن استخدامها بقيمة 20 ملياراً و894 مليون دولار. كان لدينا أرقام أكبر… أقرضنا المصارف ما يساوي 8 مليارات دولار (…) خلال السنوات الثلاث الماضية، أعطينا أموالاً للقطاع المصرفي أكثر مما أخذنا منه وذلك بحدود خمسة مليارات دولار.
ــــ في هذا الكلام اعتراف واضح بأن سلامة أعطى المصارف خمسة مليارات دولار خلال ثلاث سنوات. لم يقل كيف دفعها، وما هي نتائجها وبأيّ هدف، إنما ركّز على أنه «المنقذ» الذي أنقذ المصارف. أما سيولته بقيمة 20.8 مليار دولار، فهي تتضمن نحو 18 مليار دولار احتياطات إلزامية أودعتها المصارف مقابل الودائع التي حصلت عليها من الناس. هذه الاحتياطات لديها وظيفة أساسية: دفع الودائع في حال الإفلاس. اليوم، نحن أمام حالة إفلاس تقني واضحة وباعتراف رسمي. أما الاحتياطات الفعلية التي يدرجها مصرف لبنان في ميزانيته فهي أقل من ثلاثة مليارات، إذ لا قيمة حالياً لأي سند يوروبوندز يحمله في ميزانيته (يحمل حالياً 5 مليارات دولار سندات يوروبوزندز) بسبب إعلان التوقف عن السداد. لا يمكن تسييل سند واحد من هذه السندات التي ستتعرّض لاقتطاع بنسبة 75%.
ألم يكن الأجدى القول إن الهندسات استقطبت ودائع الناس في المصارف وحوّلتها إلى خسائر؟


مما قاله سلامة:
• نحن نبحث عن الأرقام، لكن الحاصل نتيجة عجزين متزامنين: الأول عجز بالحساب الجاري أي الميزان التجاري والتحاويل من لبنان وإليه. هذا العجز من 2015 إلى 2019 كان 56 ملياراً و232 مليون دولار وهي أموال خرجت لتمويل الاستيراد، ومصرف لبنان ليس لديه الإمكانيات لمعرفة هذه المواد المستوردة أو التي يمكن التوفير من خلالها وأن الدولة هي الوحيدة التي يمكنها التدقيق في هذا الأمر لمعرفة سبب تلك المبالغ الكبيرة في وقت عدم وجود نموّ في الاقتصاد. وتقديراتنا وجود 4 مليارات دولار لم يكن لبنان بحاجة إلى استيرادها سنوياً. العجز الثاني هو عجز الموازنة إذا جمعناه خلال 5 سنوات يساوي 25 مليار دولار، ومجموع العجزين 81 مليار دولار في 5 سنوات وهذا يشكل الفجوة وليس حسابات مصرف لبنان. لبنان بحاجة سنوياً الى 16.2 مليار دولار ليستمر، وهذا ما عمل عليه مصرف لبنان من خلال إيجاد الدولارات اللازمة لثبات الاستقرار.
وقائع مناقضة
ــــ كل هذا الكلام عن عجز الحساب الجاري وعجز الحكومة يعكس أمراً أساسياً لم يشر إليه أبداً سلامة: قيمة الالتزامات والخسائر في ميزانيته. فمن أجل تمويل هذه العجوزات، عمل على استقطاب الدولارات بكلفة باهظة ورفع أسعار الفوائد وأجرى الهندسات. هنا مكمن الخسائر. لو كان سلامة شجاعاً، كما يدّعي، لنشر تقارير المدقق المالي «ديلويت» علناً لنعرف تفاصيل ميزانية مصرف لبنان.

مما قاله سلامة:
• استطاع مصرف لبنان، بالرغم من الصعوبات، أن يحافظ على استقرار سعر الصرف. حتى اليوم، لا يزال سعر الصرف ثابتاً في القطاع المصرفي ويستفيد منه اللبنانيون بأمور عدة… نحن نطمئن اللبنانيين ونؤكد لهم أن ودائعهم موجودة وهي في القطاع المصرفي وتُستعمَل…
وقائع مناقضة
ــ كذبة استقرار سعر الصرف صارت سمجة. حتى سلامة يجب أن يتأبى ذكر ذلك لأنه نفسه أصدر تعاميم كثيرة لعدّة أسعار صرف. هناك سعر الـ 1507.5 ليرات مقابل الدولار في التعاملات بين مصرف لبنان والمصارف، وهناك سعر 3000 ليرة للتعاملات بين المصارف وبعض الزبائن، وهناك سعر صرف للمؤسسات التي تقوم بالتحويلات الإلكترونية محدد بنحو 3625 ليرة، وهناك سعر السوق السوداء الذي بلغ 4300 ليرة… عن أي استقرار سعر صرف يتحدّث سلامة؟ وما دامت الودائع موجودة، فلماذا يأمر المصارف بعدم دفعها للمودعين بالعملة التي أودعوها بها، بل يُبدّل الدولارات بليرات، وبسعر يفرض فيه على المودعين «هيركات» تحدّث عنها أمس كما لو أنها شر مطلق.