لليوم الثاني على التوالي تحرّك الشارع بصخبٍ وعنف أكبر من دون أن تنأى منطقة عن الحركة الاحتجاجية، وتوسّع الغضب الشعبي الموجّه إلى المصارف، من الشمال إلى البقاع وصيدا وبيروت. غضب لا يُقارَن بما ترتكبه المصارف، والمتوّج أخيراً بسرقة أموال المودعين وانهيار خرافي في سعر صرف الليرة، وغلاء متوحّش من دون مبرر لأسعار كثير من السّلع. لكن هناك أيضاً حركة «غير شعبية»، سياسية بامتياز، يتقدّمها تيار المستقبل والرئيس سعد الحريري، كمدافع خفي وعلني عن حزب المصارف وحاكم المصرف المركزي رياض سلامة وعن «التركيبة» بأكملها. وهذه الحركة ظهرت مجدداً في محاولات حرف التظاهرات عن مسارها ضد البنوك، وألعاب قطع الطرقات على الخطّ الساحلي ومفاصل البقاع وطريق المصنع نحو سوريا التي يديرها أحمد الحريري وبعض المشايخ المحسوبين على التيار، وبعض التحركات لحزب القوات اللبنانية في خط الساحل الشمالي. بالتوازي مع الحملات الإعلامية المضلّلة لتوجيه التظاهرات ضد الحكومة الحالية والرئيس حسان دياب، وكأنها المسؤولة عن الأزمات، إضافة إلى مئات الشائعات الأمنية والتحريضية والفتنوية.الجيش حاول أمس تحسين الأداء وامتصاص ضغوط الميدان في غالبية المناطق من دون خسائر بشرية في صفوف المتظاهرين أو في صفوفه، مع تعليمات واضحة بعدم استعمال أي رصاص حي تحت أي ظرف، خصوصاً أن الضريبة كانت باهظة ليل الاثنين - الثلاثاء مع سقوط الشهيد فواز السمان في طرابلس.
هذا الضغط العملاني والنفسي على الجنود والضباط الذين تضاءلت قيمة رواتبهم أيضاً، وضغط المهمة على قيادة الجيش وكبار الضباط للقيام بدورها في حفظ الأمن ومنع الاحتجاجات من التحوّل إلى فوضى كاملة، يضع المؤسسة العسكرية في موقف هو الأصعب منذ نهاية الحرب الأهلية، وتحديّات أكبر من تلك التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
رئيس الحكومة استهل جلسة مجلس الوزراء أمس بالقول إن «خروج الناس إلى الشارع طبيعي، خصوصاً بعدما تبيّن لهم وجود محاولات سياسية لمنع الحكومة من فتح ملفات الفساد. نحن نتفهّم صرخة الناس ضد السياسات التي أوصلت البلد إلى هذا الواقع الاجتماعي والمعيشي والمالي والاقتصادي، ونتفهّم المطالب الشعبية بالإصرار على محاسبة الفاسدين الذين تسبّبوا بحالة الانهيار»، رافضاً «المحاولات الخبيثة لتحويله (التحرّك) إلى حالة شغب، وبالتالي الاستثمار السياسي في حالة الشغب لخدمة مطامع ومصالح وحسابات شخصية وسياسية».
تصاعد الحركة الاحتجاجية اجتذب السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا على عجل، فزارت السرايا الحكومية معربةً عن استيائها من أعمال الفوضى كما أشار بيان رئاسة الحكومة. وكتبت شيا على «تويتر» أن «شعور الشعب اللبناني بالإحباط بسبب الأزمة الاقتصادية أمر يمكن تفهمه، ومطالب المحتجين مبررة. لكن حوادث العنف والتهديدات وتدمير الممتلكات مقلقة للغاية ويجب أن تتوقف». طبعاً، مجرى الأحداث والنتيجة الأولية للغضب الشعبي، لم تصبّ في خانة ما تشتهي السفيرة الاميركية، أي ضد حزب الله، بل انفجرت في وجه أكثر ما يعني الأميركيين في لبنان، أي النظام المصرفي، وحاكم المصرف المركزي.
وبمعزل عن الموقف من العنف، تضمّن بيان رئاسة الحكومة مواقف لافتة في زيارة شيا إلى السراي، لا سيّما أنها «جدّدت التأكيد على وجوب التعاون مع صندوق النقد الدولي». كما أعلنت عن «مساعدات إنسانية من الولايات المتحدة إلى لبنان لمساعدته في مكافحة وباء كورونا، وذلك عن طريق الجامعة الأميركية في بيروت»، من دون أن يفصّل البيان دور الجامعة ونوعية المساعدات.
الانحياز الأميركي للبنوك وشجب الغضب ضدها، أكمله أيضاً المنسق الخاص للأمم المتحدة في لبنان، يان كوبيش، الذي انتقد ما أسمها «تصفية الحسابات»، مغرّدا عبر «تويتر»، بأن «الأحداث المأساوية في طرابلس التي تواجه فيها المتظاهرون غير السلميين مع الجيش اللبناني والتي أدت إلى استشهاد متظاهر ووقوع إصابات من الطرفين، ترسل إشارة تحذير للقادة السياسيين في لبنان». أضاف أن «هذا ليس الوقت المناسب لتبادل تصفية الحسابات أو الاعتداء على البنوك، بل إنها اللحظة التي يتعين فيها توفير الدعم الملموس للأغلبية المتزايدة من اليائسين والفقراء والجوعى من اللبنانيين في جميع أنحاء البلاد».
الاهتمام الأميركي المنحاز، يوازيه اهتمام أوروبي ونشاط متطوّر خلال الأيام الأخيرة في لبنان، سببه القلق الكبير الذي تشعر به دوائر القرار الأوروبية من الفوضى في لبنان. فبعد العرض الألماني عبر «سيمنز» لحل أزمة الكهرباء في لبنان في رسالة سياسية واقتصادية، كان لافتاً امس الاتصال الذي أجراه وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان بدياب، ووعد فيه بعقد اجتماع لمجموعة الدعم الدولية من اجل لبنان، فور انتهاء إجراءات الحظر التي يفرضها وباء كورونا. وفيما كرر لودريان موقف بلاده الراغب بـ«مساعدة لبنان مع صندوق النقد الدولي»، اتصل وزير المالية والاقتصاد الفرنسي برونو لوميار بوزير المالية غازي وزني، مؤكّداً «دعم فرنسا للبنان بخطته المالية والاقتصادية مشددا على ضرورة تنفيذ الخطوات الإصلاحية المطلوبة منه». كذلك تلقى دياب برقية تهنئة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، بحلول شهر رمضان، كمجاملة مصرية في سياق علاقة في طور التطور بين مصر ودياب.
النتيجة الأولية للغضب الشعبي لم تصبّ في خانة ما تشتهي السفيرة الاميركية


كل هذه الإشارات، الإيجابية والسلبية، والخطوات التي تحاول القيام بها الحكومة لتجميد الانهيار وتصويب الإدارة المالية في البلد بدءاً من مصرف لبنان، لا تعفي مجلس الوزراء من تنفيذ مشروع مساعدة الللبنانيين المالية وإقرار خطط الطوارئ التي فشلت في مجلس النواب. وهذه قبل أن تكون مسؤولية الحكومة، هي مسؤولية مجلس النواب أيضاً كمشرّع، إذ إن الأعذار البروتوكولية والقانونية التي تسلح بها الرئيس نبيه بري لتأجيل النقاش أسبوعين في خطة الدعم بـ 1200 مليار لا تنفع في أوقات دراماتيكية ومصيرية خطيرة كتلك التي يمرّ بها البلد، خصوصاً أن السلطات دفعت مراراً رشاوى بالجملة والمفرق لصالح استقرار مؤقت، فيما تتأخر اليوم عن دفع واجبات إنقاذ شعبها من الجوع. وعليه، فإن الحكومة مطالبة بإقرار خطط الوزارات لا سيّما وزارتي الصناعة والزراعة وتأمين موارد غذائية مضمونة بشكل عاجل، والمجلس مطالب بتسهيل هذه الخطوات بدل تعقيدها وهدر المزيد من الوقت والمسارعة في انفجار الشارع نحو الفوضى.
وحفلت جلسة الحكومة أمس، بتكليف وزارة المالية الطلب من مصرف لبنان إعداد لوائح تتضمن مجموع المبالغ التي جرى تحويلها إلى الخارج اعتبارا من تاريخ 1/1/2019 ولغاية تاريخه مع تبيان نسبة المبالغ التي جرى تحويلها من قبل أفراد يتعاطون الشأن العام وتلك التي حولت لأسباب تجارية، مجموع المبالغ التي سحبت نقدا في الفترة عينها المومأ إليها، مجموع المبالغ التي جرى تحويلها في فترة إقفال المصارف استنادا إلى قواعد الامتثال والتعاميم ذات الصلة. كما أقر مجلس الوزراء أربعة تدابير آنية وفورية لمكافحة الفساد واستعادة الأموال المتأتية عنه، وهي: تفعيل التدقيق الضريبي، التحقيق المحاسبي، تطبيق المادة الخامسة من قانون السرية المصرفية والرقابة المؤخرة لديوان المحاسبة.