صار لا بد من مقاربة أكثر هدوءاً لمسألة النفط. أن تكون شركة «توتال» قد أنهت العمل في بئر الاستكشاف الأولى في الرقعة الرقم ٤، فهذا ليس نهاية المطاف. على العكس، تلك هي بداية حكاية النفط في لبنان. لكن حتى تلك البداية لم يحن وقتها بعد. «توتال» لم تنه العمل في البئر تماماً. بحسب العقد، كان يُفترض فعلاً أن يكون ٢٥ نيسان موعد الانتهاء من العمل، لكن ما انتهى أول من أمس هو أعمال الحفر. توقُّف الحفر شيء وتوقف العمل في البئر شيء آخر. عمال الشركة ومهندسوها لم يبارحوا منصة الحفر. يبقى أمامهم يومان للانتهاء من إنجاز قياسات البئر، قبل إغلاقها. بعد ذلك تبدأ عملية تحليل المعطيات الجيوفيزيائية للتربة والصخور، وشهران لتقديم تقرير مفصل عن نتائج أعمال الحفر للسلطات اللبنانية. هذا كله عمل روتيني لن يغير في الواقع شيئاً: انتهت الأعمال من دون اكتشاف الغاز. لكن مع ذلك، هذه ليست أخبارا سيئة، على الأقل بالنسبة إلى أهل القطاع. توضح مديرة «معهد حوكمة الموارد الطبيعية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا» لوري هايتايان أن حفر البئر إنجاز يسمح بالحصول على معطيات ومعلومات جيوفيزيائية لم تكن متوفرة عن تلك الأعماق، وتسمح بإنارة الطريق أمام الاكتشافات اللاحقة.سبق لـ»الأخبار» أن كشفت الأسبوع الماضي أنه على عمق ٣٧٠٠ متر، تم اكتشاف الغاز فعلاً. خصائص هذا الغاز لم تكن ذات قيمة، فاستكمل الحفر، قبل أن يتوقف على عمق ٤٢٠٠ متر (التزاماً بالعقد) عند خلاصة: البئر جافة. تلك المعطيات أكدها الوزير جبران باسيل، في مؤتمره أمس، واصفاً ما اكتشف بأنه غاز غير تجاري، فيما تعتبر مصادر مطلعة أنه مجرد انبعاثات غازية معتادة في مواقع الحفر.
في الأساس أن لا يكون تحليل المعطيات قد انتهى، فهذا يعني أن كل الاحتمالات مفتوحة، إن لم يكن في البئر الأولى ففي ما يليها.
ذلك كلام يمكن أن يُقرأ كتجميل للواقع. وهو دأب السلطة السياسية، أو أغلبها، التي فشلت في إدارة التوقعات. لم يقل أحد للناس ما هو بديهي بالنسبة إلى أصحاب الاختصاص. لم يقل أحد أن عدم اكتشاف النفط في البئر الأولى ليس فشلاً، بل إنه الاحتمال الأرجح، يفوق برجحانه نسبة الـ 70 في المئة. وتلك نسب عالمية، تزداد في بلد لم يسبق له أن حفر بئراً. لم يقل أحد، إلا لماماً، إن مجرد حفر البئر الأولى هو إنجاز يسمح في إضاءة الطريق أمام الاكتشافات التي تلي، ولا يقلل من احتمالات اكتشاف الغاز.
ذلك كله ليس بريئاً. الطبقة الحاكمة بأكملها تتحمل المسؤولية. في المرتبة الأولى يأتي التيار الوطني الحر الذي بالغ في الاستثمار السياسي والانتخابي. ولذلك، بدلاً من مصارحة الناس بأن إمكان اكتشاف الغاز من أول بئر لا تتجاوز نسبته عتبة الـ 30 في المئة، صار التركيز منصبّاً على إقناعهم بأنه بفضل «التيار» صار لبنان بلداً نفطياً. ثم يأتي باسيل ويسأل: لماذا يتم التعامل مع الموضوع كأنه خسارة للتيار والعهد وليس للبنان؟
ذلك النقاش لا يحجب حقيقة أن فئات ثلاثاً فرحت بالنتيجة: الأولى، معادية للعونيين، اقتنعت، بفضل الدعاية العونية، بأن اكتشاف الغاز سيكون إنجازاً للعهد، وبالتالي فإن عدم اكتشافه سيكون بمثابة انتكاسة له. والثانية، وصوتها كان الأخفض، هي الفئة التي تعارض الاستكشاف لأسباب بيئية. والثالثة، هي التي تفضّل بقاء الغاز في البحر، إن كان موجوداً فعلاً، خوفاً من أن تضيّع الطبقة الفاسدة ثروة الأجيال المقبلة، وخاصة أن من بين السياسيين من كان يمنّي النفس بإطفاء الدين العام بالغاز، بدلاً من استخدام تلك المادة الناضبة في مشاريع التنمية.
النتيجة واحدة في الحالات الثلاث: ليس جفاف البئر سبباً للانتكاسة وإن تزامن مع انهيار اقتصادي ومالي ونقدي غير مسبوق. لكن ماذا بعد؟
أعمال الحفر في البلوك الرقم ٤ انتهت: البئر جافة


الترجيحات تشير إلى أن «توتال» لن تغامر بحفر بئر ثانية تأكيدية. العقد لا يُلزمها في السنوات الثلاث الأولى من العقد سوى بحفر بئر واحدة، مع احتمال أن تحفر بئراً ثانية ربطاً بالمعطيات التي ستحصل عليها من البئر الأولى. حتى اليوم، لا تبدو تلك المعطيات مشجعة كما لا تبدو «توتال» متحمسة للاستثمار في ظل انهيار أسعار النفط وفي ظل خسائرها الضخمة. لكن هذا لا يعني أن العمل في البلوك الرقم ٤ قد انتهى. خلال السنتين الأخيرتين من العقد، ستكون ملزمة بحفر بئر ثانية، على الأرجح في منطقة بعيدة عن مكان البئر الأولى.
هذا يعني أن الحفر في البلوك الرقم ٤ قد ينام لأكثر من سنتين، لكن ماذا عن البلوك الرقم ٩؟ قبل انتشار كورونا، كانت الشركة قد بدأت، بالفعل، باستيراد ما تحتاج إليه للحفر في ذلك البلوك، بالتوازي مع إجرائها لدراسة الأثر البيئي. أي أنها قطعت شوطاً في التحضير لحفر البئر. هل تعود بعد كورونا وانخفاض أسعار النفط لتعدّل في خططها؟ تستبعد مصادر مطلعة تعديلاً على شاكلة وقف الحفر، مع إشارتها إلى أن الوضع الراهن سيفرض تأجيل بدء الأعمال إلى ما بعد نهاية العام الحالي. أما الإلغاء فمستبعد لأسباب عديدة، أولها أن العقد أيضاً يُلزم الشركة بحفر البئر خلال ثلاث سنوات، تحت طائلة خسارة الكفالة التي تبلغ قيمتها ٤٠ مليون دولار. وبالتالي، فهي لن تفوّت على نفسها فرصة الاستفادة من هذا المبلغ للاستكشاف في الرقعة الجنوبية، حيث نسب العثور على الغاز مرتفعة أكثر، في ظل قرب المنطقة من حقل سبق أن اكتشف العدو الإسرائيلي وجود كميات كبيرة من الغاز فيه.