خلال الانتفاضة المطلبيّة المُحقّة في 17 تشرين الأول من العام الماضي، واجه بعض أركان السلطة المزمنة تداعيات هذه الانتفاضة بالإنكار، بل واعتبارها هَبّة مؤقتة سرعان ما تخمد نارها وتعود الأمور الى ما كانت عليه بما يكرس من جديد استدامة منطق هذه السلطة على الأفكار والمطالب الإصلاحية التي حملتها تلك الانتفاضة.غير أن سقوط حكومة الرئيس سعد الحريري وتشتّت جمع مكوناتها التقليدية بالأخص، فرض على هذه المكونات إعادة النظر بآلياتها المعتمدة منذ أكثر من 27 عاماً دون الغوص في جوهر الحلول الإصلاحية التي لا بد من أن تبدأ بتصحيح المبادئ التنظيمية لعملية التشريع وإقرار القوانين وتصديقها، إضافة الى اختيار نوعياتها وترتيبها وفق أولويات تحاكي الإصلاح والتغيير المنشودين، وخصوصاً في ما يتعلق بالقوانين التي تتطرق الى جوهر المشاكل البنيوية في الإدارة والاقتصاد والقضاء والسياسات المالية والنقدية التي أوصلت لبنان واللبنانيين الى دَركِ الانهيار.
لذلك حاولت هذه المكونات سرقة شعارات انتفاضة اللبنانيين تارة، وسلبها تحركها المطلبي في الساحات تارة أخرى، والانقضاض عليها طائفياً ومذهبياً، وأيضاً أمنياً في حالات ثالثة، حتى إنه يكاد لا يخلو أي موقف رنان أو بيان لكتلة نيابية تعود ملكيتها لأركان هذه السلطة من المطالب ذاتها التي نزل اللبنانيون الى الساحات أملاً بإقرارها على المستويين الحكومي والتشريعي.
في المرحلة تلك، حَمَّلت السلطة وبالأخص منها رئيس المجلس النيابي نبيه بري وحلفاؤه، المنتفضين مسؤولية التأخير عن إقرار مطالبهم وتصديقها، حتى ذهب بري نفسه الى القول إنه مستعد للقيام بثورة تشريعية في حال فتح المنتفضون الطرقات التي تحيط بالمجلس وسَهَّلوا انتقال المشرعين إليه. طبعاً هي لا تعدو كونها مناورات كلامية لكسب الوقت انطلاقاً من الرهان على تعب اللبنانيين ويأسهم المتوارث من إمكانية إحداث تغيير جذري في بنية السلطة، بالإضافة الى اقتناع منظومة السلطة المزمنة بأن الوقائع الاجتماعية والمعيشية والمالية والنقدية ستفرض تبدلاً في أولويات اللبنانيين المنتفضين والمتفرجين لجهة البحث عن لقمة العيش والرضى بالواقع الأليم عوضاً عن الانتقال الى مجهول.
لذلك كله، وجدنا أن انكفاء المجلس النيابي عن القيام بالمهمات التشريعية الضرورية لاستعادة ثقة اللبنانيين بنظامهم السياسي سبق بزمنٍ طويل إجراءات الحَجر التي فرضتها الحكومة لتجنب تفشي وباء «كورونا»، وبسبب ذلك أيضاً نرى اليوم تصعيداً سياسياً وإعلامياً من قبل قوى هذه المنظومة من داخل الحكومة وخارجها بهدف إسقاطها تحت ذريعة انقضاء فرصة السماح التي أُعطيت لها. غير أن الهدف الحقيقي الكامن يتمثل بسعي هذه المنظومة الحثيث الى العودة للالتئام ولمّ الشمل تحت سقفَي السراي والبرلمان معاً تجنباً للآتي من تداعيات الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي على أطرافها، باعتبارها المسؤول الأول والأخير عن هذا الانهيار، وربما تكون العودة الى التشبث بالسلطة هو الملاذ الوحيد والأخير.
اليوم الثلاثاء 12/4/2020 من المفروض أن تجتمع الهيئة العامة لمجلس النواب لمناقشة جدول أعمال أقرّته هيئة مكتب المجلس خلال الأيام الماضية، ويكفي أن يطّلع اللبنانيّون وبالأخص المنتفضون منهم على هذا الجدول كي يجدوا أنهم هم ومطالبهم الإصلاحية ومآسيهم الاجتماعية والمعيشية، بل وحتى الإنسانية ليسوا ضمن بنوده.
لذا، فإن من الواضح أن مجرد التفكير بإطلاق ورشة إصلاح قانونية وحتى دستورية حقيقية وجذرية ليست على أجندة رئيس المجلس وهيئة مكتبه وبعض كتل المنظومة أيضاً، على الرغم من وجود كَمٍ كبير من اقتراحات ومشاريع القوانين في أدراج المجلس، ويبدو أننا سنبقى أسرى التشريع «غب الطلب» أو «تشريع الضرورة» الذي تفرضه عادة المصلحة في استصدار قوانين تحقق مصالح ظرفية وتحاصصية أو سياسية خارجية عُليا!
هي جلسة من جلسات «تشريع اللاضرورة» على حساب الضروري والمُلِحّ، بل والذي يفرض عملاً يومياً حثيثاً لمؤازرة اللبنانيين وتلبية مطالبهم ولمواكبة الحكومة في طروحاتها «الإنقاذية»، والأهم لمحاولة إعادة الروح والدور الى مؤسسة المجلس النيابي بعدما خبا وهجها منذ أمد طويل.

* قيادي سابق في حركة أمل