استبشرنا خيراً عندما أعلنت الحكومة أنها تحرص على إعادة الاقتصاد المنتج والابتعاد عن النمط الذي كان سائداً في السابق، والذي همّش الصناعة والإنتاج، وخصوصاً ان الدروس التي تعلمناها أثبتت أن السبيل الوحيد اليوم للنمو هو بتشجيع الإنتاج لخلق فرص عمل منتجة واستدامة اقتصادية وتأمين السوق اللبناني. وما الانهيار الذي نشهده اليوم إلا خير دليل على فشل النظام الريعي.عندما بدأت أزمة فيروس «كورونا»، كتبت مقالاً بعنوان «الإنتاج في زمن الكورونا»، لأنني كنت متخوفاً من أن يؤدي التخبط بالقرارات الى ضرب القطاع الصناعي مباشرة بعدما عانى الأمرّين من الأزمة المالية التي أدت الى شلل في عجلة الإنتاج. ونبّهنا الى أن عجلة الإنتاج يجب أن تستمر، ويجب أن تراعي القرارات وذلك بالتنسيق مع الوزراء المختصين، وإيجاد آلية تؤمن السلامة العامة، وفي الوقت نفسه تؤمن استمرارية المصانع التي توظف آلاف العائلات، وتؤمن السلع للاستهلاك المحلي، وإدخال العملة الصعبة الى البلد عبر استمرار التصدير.
تخوفنا كان في محله لأن القرارات أتت متسرعة وفردية من دون استشارة الوزير المختص والأخذ في الاعتبار ما تستلزمه المرحلة للحفاظ على استمرارية مئات الشركات والمصانع، والأهم الحفاظ على فرص العمل المنتجة، لأننا نخشى أن تكون البطالة الوباء المقبل الذي سنعاني تبعاته بطريقة كارثية. فأتى قرار الإقفال بطريقة لا تراعي ما تتطلبه بعض الصناعات، وتمّ صمّ الآذان عن المطالبات المتكررة للصناعيين. فالإقفال، مثلاً، عند الساعة الخامسة لبعض الصناعات التي تضطر الى وقف آلاتها وأفرانها لإعادة تشغيلها في اليوم التالي، أدى الى خفض القدرة الإنتاجية بنسبة 30%، لأن التشغيل يتطلب وقتاً طويلاً، وهو ما يفهمه الصناعيون جيداً. وخير دليل على التخبّط إرسال دوريات أمن بلا خبرة صناعية الى المصانع وإقفالها بسبب تلاسن مع ناطور المعمل مثلاً من دون مراجعة الإدارة، كما في فرض قرار «المفرد والمجوز» الذي استثنى صهريج المياه ولم يستثن موزّع غالونات المياه أو مصنع السبيرتو! فيما البلدان القليلة التي طبقت هذا الإجراء استثنت فانات نقل البضائع حفاظاً على الإنتاج، كما أن هناك معامل غذاء ومياه، وبلاستيك للتوضيب، وغيرها تعمل 24/24 ويضطر العامل أن يبقى ليلاً ويحضر بسيارة مفرد مثلاً. فكيف سيغادر في اليوم التالي في ظل تطبيق هذا الإجراء؟ وهل تقييم اليومين الأولين أثبت أن هذا الإجراء ساهم في تخفيف الاكتظاظ وسط مشهد الحواجز الذي أدى الى زحمة سير ووجود عدة أشخاص في السيارة الواحدة؟
نخشى اليوم أن يكون التخبط نابعاً من تهميش مستمر للصناعة والقطاعات الإنتاجية وليس فقط بفعل الأزمة الراهنة. فقد قرأنا في «الأخبار» أمس أنه يجري العمل على إعداد ورقة إنقاذ اقتصادية للخروج من الاقتصاد الريعي من دون مشاركة وزارتَي الصناعة والزراعة، وهذا مؤشر خطير لاستمرار العقلية السابقة في تهميش القطاعات المنتجة وعدم اعتبار وزارات الإنتاج وزارات أساسية وسيادية.
أعود الى الصرخة الصناعية التي تم إطلاقها في 21 كانون الثاني وكان التجمع الأكبر لإطلاق صرخة استغاثة، وكان الصناعيون مجتمعين في وقفة موحدة مع العمال للتحذير من الكارثة التي تهدد 160 ألف عامل في لبنان والمطالبة بفتح اعتمادات لاستيراد المواد الأولية، وتم تقديم وعود لم تنفذ. فالاعتمادات لم تفتح حتى اليوم، والتخبط لا يزال سيد الموقف. لم تلق الصرخة الصناعية آذاناً صاغية، بل أُضيفت إليها اليوم قرارات متسرّعة ستحطّم ما بقي من الجسم الصناعي في لبنان.
أتوجّه إلى زملائي الصناعيين اليوم بصرخة جديدة لإعلاء الصوت ورفض الممارسات بحق الصناعة. المطلوب التحرك واتخاذ خطوات حازمة لتذكير الحكومة مجدداً بوعودها السابقة، والأهم تذكيرها بأن لا مستقبل اقتصادياً من دون الصناعة والإنتاج، ولا يمكن الاستمرار بضرب القطاع المنتج في لبنان. ولا بد من التذكير بأن المسيرة إلى مركز جمعية المصارف توقفت بعد وعد رئيسها لرئيس جمعية الصناعيين بمعالجة الموضوع! وهنا نسأل: هل يعقل أن تبقى جمعية الصناعيين عضواً في هيئات اقتصادية تعمل فيها كل هيئة لمصلحتها من دون اعتبار لمصالح الآخرين؟
الصناعيون هم جنود أساسيون في معركة الكورونا اليوم، يرفضون الاستسلام ويبتكرون منتجات ومعدات، وحريصون على استمرار العجلة الإنتاجية، والحفاظ على الوظائف تلافياً لانهيار اجتماعي. والأهم حريصون على السلامة العامة وسلامة عمالهم، وملتزمون بأقصى الإجراءات عبر تقسيم أوقات العمل والتعقيم والمداورة وغيرها. والمطلوب من الحكومة الالتفات جدياً الى القطاع المنتج والتوقف عن إقفال المصانع من دون أخذ رأي جمعية الصناعيين اللبنانيين ووزير الصناعة، وتنفيذ آلية استيراد المواد الخام وقطع الغيار، مع فائدة على القروض الصناعية لا تتعدى النصف في المئة فوق معدل الفائدة على الودائع.
الصرخة الصناعية التي أطلقناها يجب أن تسمع، وإلا البديل سيكون الانهيار. أتوجّه لدولة رئيس الحكومة لأقول له إنه لا يواجه فقط أهل السياسة، ومنهم من هم من مدارس فكرية لا تفهم أهمية الإنتاج، بل جهازاً إدارياً يعادي بالفطرة المتوارثة القطاعات الإنتاجية!
* وزير سابق وصناعي