في زمن الكورونا، حين يختبئ البشر خلف جدران من هواء خشية على بقية عمرهم، يظهر المتنفذون في غالبية الدول قليلي الشجاعة. أميركا تصرخ والناس يتدافعون بحثاً عن ملاذ، لأنهم لا يثقون بالحاكم. أوروبا تكاد تلفظ أنفاسها مكتشفة للمرة الاولى أنها القارة العجوز. والدول الصغيرة تحاول الثبات من أجل البقاء في عالم لا يرحم فيه قويّ ضعيفاً. ولأن الأمر على هذا النحو، ترى البشر لا يغيّرون عاداتهم.يروي لي مساعد أحد المسؤولين في بلادنا، أنه يُعِدّ لرئيسه تقريراً موجزاً عن حالة البلاد وأوضاع الناس الصعبة. وعندما يلتقيه صباحاً يأتيه السؤال: هل عثروا على اللقاح؟
قلت له إن الرجل ربما يهتم بما يبقي الناس على قيد الحياة. أجابني: أنت لا تعرفه كما أعرفه أنا. ولو أن الأمر كذلك، لكانت بقية النهار مستهلكة في الدفاع عن حقوق المقهورين منذ ما قبل زمن كورونا.
أنا هنا لست لأطالب المساعد بالخروج من موقعه. أعرف جيداً أنه سيموت من الجوع لو فعل ذلك. لكن سؤالي كما بقية الناس: ما الذي يجب أن يحصل حتى يغيّر هؤلاء المتنفذون من سلوكهم؟ ما الذي يجب أن يحصل من الطبيعة أو من الناس حتى يُقِرّ هؤلاء، ولو لثوان، بأنهم أحد الاسباب الرئيسية للأزمة التي نحن فيها؟ ما الذي يمكن القيام به لإقناعهم بأن في الحياة نظام تقاعد، لا الموت وحده، يبعدهم عن القرار؟
ها هي البلاد تئن تحت وطاة أزمة لا علاج قريباً لها. قد يجدون اللقاحات والأمصال لفيروس كورونا، لكننا في لبنان، لا نعرف كيف نجد العلاج المضاد لوباء أهل السلطة ورجالها، الاصليون منهم أو الجدد. ولا نعرف كيف يمكن أن يستفيق هؤلاء، ولو للحظة واحدة، ناظرين من حولهم، ليجدوا البيت وقد تهدم.. كيف يمكن إقناع من فشل في إدارة البلاد على مرّ ثلاثين سنة وأكثر، بأنه حان وقت الرحيل، وأن الرحيل من تلقاء النفس أفضل من الترحيل بقوة النار والحديد وغضب الجائعين. كيف يمكن إقناع كل أرباب السلطة، المالية والسياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية والحزبية، بأن الزمن لم يعد يحتمل مجرد وجودهم في مواقع السلطة، فكيف سيتحمل تجاربهم الجديدة في إدارة بلاد منهكة؟
كيف لهؤلاء أن يفهموا أن هذا البلد المريض، المثخن بجراحه، يعاني ما يعانيه بسببهم؟ أو لنقل أقلّه، بسبب فشلهم في معالجته؟ لقد كانوا يحتلون المقاعد كافة. منحوا أنفسهم كل شهادات الطب والعلم، وبأنهم هم من سوف ينقذون المريض من الموت. وبعدما عجزوا، واستفحل المرض، وعجزوا عن العلاج، ها هم لا يريدون ترك الامر لغيرهم. وحتى إذا ابتعدوا قليلاً، يريدون أن يختاروا هم من ينوب عنهم في معالجة المريض. كيف يمكن لهؤلاء أن يشعروا بقليل من الانسانية ويعتبروا من أزمة العالم اليوم، ويبتعدوا بصمت؟
اليوم، تقبل الحكومة على أول استحقاق إداري كبير له صلة بكل ملفات البلاد المقبلة. إنه استحقاق التعيينات المالية في مناصب شاغرة في مصرف لبنان ولجانه وتوابعه. لكن الحكومة التي كان بمقدورها اعتماد آلية جديدة لاختيار المرشحين، تعود لتعمل وفق قواعد اللعبة ذاتها. كيف لحسان دياب أن لا يدرك أنه بقوة الشارع والمزاج العام فرض على جميع القوى السياسية البحث عن ممثلين غير تقليديين لهم في الحكومة؟ كيف نقنع حسان دياب بأن في مقدوره اليوم ايضاً فرض آلية جديدة للتعيينات الادارية في البلاد، وأن يرفض الآليات التي أدت الى فساد الادارة العامة والى الانهيار العام. وكلنا نعرف أن المشكلة ليست محصورة في رأس الهرم. وعدا عن أصل النظام ووظيفته في الإقليم والعالم، لم يكن الوزراء وحدهم مسؤولين عن الانهيار وسوء الإدارة، بل الاساس أيضاً جيش رؤساء الادارات الذين ظلوا في أمكنتهم، ينفذون كل ما يطلب منهم، ويضيفون ما يناسب مصالحهم، حتى وصلنا الى الخراب الكبير.
قرارات الخبراء الدوليين توصي بسرقة حقوق الناس وتفرض عليهم العمل بـ«السخرة»


كيف لهذه الحكومة أن تقبل بهذه الآلية التي تبقي الأمر على حاله: هذا هو جبران باسيل، فاز بعدد من المقاعد ( لا يهمه إن كان بعضهم طرد من عمله لفشله في القيام بما هو مطلوب منه). وها هو حزب الطاشناق ثبت أن أي موظف أرمني يجب أن يحظى ببركته. وها هو الرئيس نبيه بري، يريد من جديد تعيين وزير المالية، ونائب حاكم مصرف لبنان، وعضو لجنة الرقابة على المصارف، والمدير العام لوزارة الاقتصاد (حتى حزب الله لا يشارك في الاختيار؟). وها هو طلال أرسلان مسرور لأنه فاز بحصة وليد جنبلاط في حاكمية مصرف لبنان (في الحكومة من يفكر في ترك العضو الدرزي في هيئة الأسواق المالية لجنبلاط، خشية أن يثور الاخير على الحكومة). وها هو حسان دياب يفوز أيضاً بمقعدين، وهو يعرف أنهما ليسا من جماعة الولاء، وفي أي لحظة تبدُّل، ستراهم في بيت الوسط. وفوق كل ذلك، ها هي المنظومة المالية في البلاد، من مصارف ورجال أعمال، تفرض مرشحيها من الموظفين الذين تشير الوقائع الى أنهم إما فاشلون في مؤسسات تعاني العجز اليوم، وإما ضعفاء لا يجرؤون على المواجهة. فكان صمتهم شراكة كاملة في الجريمة...
ترى، من يستغرب ضحكات رياض سلامة العالية، فمن يقدر على إقناعه بالتغيير أو بالرحيل؟
طيب، لماذا لا تصدرون قرارات أكثر مباشرة ووضوح، فيكون محمد الحريري رئيساً للجنة الرقابة على المصارف، ومعه ثلة يختارها سليم صفير؟ لماذا لا يتم تعيين مروان خير الدين وأنور الجمال ونديم الملّا نواباً للحاكم، بينما يختار لكم فؤاد السنيورة ثلة لتولّي هيئة الاسواق المالية، ويرشح لكم المطران الياس عودة مفوّضاً للحكومة يختبره غسان حاصباني؟
أليس من خيار آخر؟
بلى هناك خيار آخر، لو أراد حسان دياب لفعل ذلك. هل هو لا يعرف أن الطبقة الحاكمة صاحبة النفوذ المستمر، لا يمكنها العيش من دونه الآن؟ ليس صحيحاً، حتى في زمن كورونا، أن بمقدور هذه الطبقة المتنفذة في كل الأمكنة أن تأتي بحكومة على ذوقها الآن، وهم يعرفون أن المزاج العام في البلاد لا يحتمل المزاح، وأن الجوع سيجعل الناس يختارون الخضوع لاختبار كورونا بدل البقاء في المنازل في انتظار صدقة هذا وشفقة ذاك.
لو أراد حسان دياب، وبيده الأمر، لقال إن قواعد اللعبة اختلفت، وإن التعيينات لا تتم بهذه الطريقة، وإن المواقع الشاغرة هي حق مشروع لكل الناس المؤهلين. ولو أراد، لفرض آلية شفافة تسمح لأي مواطن لبناني، ومن دون أي شرط مسبق، طائفي أو ديني أو مذهبي أو وظيفي بالتقدم لشغل هذه المناصب، وأن تكون هناك لجنة متخصصة تتولى دراسة هذه الترشيحات، وإجراء المقابلات المطلوبة، والسير في وجهة قبل اختيار الافضل وتعيينهم.
يأتي من يقول، ومن هي هذه اللجنة؟ وكأن البلاد خالية من الأكفاء. ألا يعرف حسان دياب، ومعه كل الوزراء الجدد، أن في لبنان شخصيات لها خبرتها وتجربتها التي تسمح لها بالاختيار الأفضل؟ هل تريدون لائحة تختارون منها مشرفين على هذه العملية: ما رأيكم لو تشكلت لجنة تضم الياس سابا، سمير المقدسي، منير راشد، جورج قرم، حسين كنعان، زياد حافظ، صالح نصولي، عبد الله أبو حبيب وغيرهم وغيرهم...
هل يريد حسان دياب، ومعه الوزراء في هذه الحكومة، المشاركة في جريمة العصر؟ هذه الجريمة التي تعني أولاً أن على اللبنانيين عدم انتظار أي إصلاح في القطاع المصرفي. وعلى الناس عدم انتظار تغييرات جدية في السياسات المالية أو البرامج العملانية في ما خصّ السياسة النقدية. وأن على الناس انتظار قرارات تسقط فجأة باسم الخبراء الدوليين، توصي بسرقة حقوقهم الشخصية في المصارف وفي مؤسسات الضمان العامة، وتفرض عليهم العمل كما لو أننا في زمن السخرة لخدمة هؤلاء الفاسدين على أنواعهم، وأن لا بدائل أمامهم. حتى الهجرة في عالم ما بعد كورونا لن تكون خياراً متاحاً...