قد يكون من المنطقي ان لا تكون هناك ثقة بالقضاء في لبنان، مثل حال بقية المؤسسات العامة. والسبب في كون القضاء الفاعل يجري تعيينه من قبل الطبقة الحاكمة نفسها. وبالتالي فان كل انطباع عن خضوع القضاء لتأثير القوى السياسية سلبا او ايجابا هو انطباع حقيقي.وقد يكون منطقيا ان خشية المودعين اللبنانيين او غير اللبنانيين على اموالهم المجمدة فعليا في المصارف اللبنانية، تجعلهم يخشون من اي قرار او خطوة تؤثر سلبا على المؤسسات الحاملة لاموالهم، وهي هنا المصارف. وبالتالي، فان الانطباع بان الناس ستخالف اي قرار بحق المصارف خشية منها على اموالها هو انطباع في محله.
وقد يكون منطقيا ان التعقيدات الكبيرة التي تحيط بمعالجة الازمات المالية والنقدية، تجعل كل خطوة حكومية او قضائية او نيابية محل تساؤل عما اذا كان لها هدف اخر غير المعلن في متن القرار. وهو انطباع مقبول بسبب سوء استخدام اهل السلطات في لبنان لكل ما بيدهم من صلاحيات وسلطات وقدرات.
لكن اذا كان لبنان في حالة كالتي هو فيها اليوم، فان المنطقي أيضاً فهم ان اي اصلاح لمنع الانهيار الكامل، يتطلب مقاربة مختلفة جذريا عما نعرفه منذ خمسينات القرن الماضي، وليس منذ مطلع التسعينات وحسب. لان القطاعات الناظمة للدورة الاقتصادية والنتائج الاجتماعية والتركيبة السياسية هي نفسها، حتى ولو تبدلت الادوار القيادية. فصيغتا الميثاق الوطني (1943) والطائف (1990) وان عدلتا في الارجحيات الطائفية لمن هو في الحكم، فهما لم تعدلا في اصل بنية النظام القائم. حتى الذين قاموا بانقلابات داخل جماعاتهم الطائفية او السياسية، لم يعمدوا الى تنفيذ انقلاب على قواعد النظام الحاكم. ولذلك، فان النسخة اللبنانية من الاقتصاد الحر، ظلت على حالها، بل صارت اكثر بشاعة عند تماهيها مع سوق الاستهلاك البشعة التي كرسها النظام الرأسمالي العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.
ما حصل أمس يمكن شرحه ببساطة: لجأ النائب العام المالي، بحسب الصلاحيات الممنوحة له في الدستور والقوانين الناظمة، الى اجراء بحق اركان القطاع المصرفي في لبنان، على خلفية انهم يتحملون مسؤولية عن جزء اساسي من الازمة المالية والنقدية القائمة في لبنان، خصوصا الجزء الاخير من الازمة المتعلق بخروج اموال كبيرة من لبنان بطريقة مريبة، وبعمليات التداول بسندات اليوروبوندز. لكن قرار النائب العام المالي اشتمل على خطأ كبير جدا، عندما قرر «منع التصرف» بالاصول الخاصة بالمصارف ورؤساء مجالس ادارتها. والخطأ هنا، انه لم يحدد «منع التصرف او الحجز الاحتياطي» بالاصول الثابتة. اي الاملاك المنقولة وغير المنقولة لاصحاب المصارف او رؤساء مجالس ادارتها. لان ترك الكلمة عامة، جعل التفسير العملاني يذهب باتجاه التعامل مع اموال المودعين على انها من الاصول. اذ ان القانون العام الناظم للعمل المصرفي يجعل اموال المودعين التي تضعها المصارف في المصرف المركزي، تنتقل من صفة التزامات المصارف تجاه مودعيها، الى صفة اصول المصارف لدى المصرف المركزي. وبالتالي، جاء هذا القرار ليمنع على المصرف المركزي اعطاء المصرف حتى الاموال الخاصة بالمودعين. وهو ما يعني عمليا، جعل اموال المودعين اسيرة قرار «منع التصرف»، عدا عن كون تجميد العمل بهذه الاصول، يتيح لمصارف المراسلة الاجنبية التوقف عن التعامل مع المصارف اللبنانية. واظهرت مداولات بعد ظهر امس، ان هذا «الخطأ الفادح» هو الذريعة الوحيدة التي لجأ اليها من مارس اكبر عملية ضغط على القضاء لاجبار النائب العام التمييزي على اصدار قرار بتجميد العمل بقرار النائب العام المالي. وهو قرار سينعكس سلبا على كل عمل النيابة العامة المالية في الفترة القليلة المقبلة، خصوصا ان الجميع كان على دراية بأنه كان سيتم استدعاء واستجواب قسم آخر من الطبقة النافذة ماليا واقتصاديا، والتي تتركز على المتعهدين والمقاولين الذين عملوا مع الدولة، ومن بينهم «مافيا النفط» التي لا تزال تعمل بقوة وتحقق ارباحا خيالية منذ توقف الحرب الاهلية الى اليوم.
لكن الخطأ المرتكب من جانب النيابة العامة المالية، لن يغفل حقيقة «الثورة الاوليغارشية» الكبرى التي شهدها لبنان امس. والتي احدثت الفرز الحقيقي في البلاد على اساس منظومة المصالح ببعديها التجاري - المالي والطائفي. اذ، للمرة الاولى منذ زمن طويل، خرج الى الساحة كل مسؤول رسمي او غير رسمي، حزبي او عام، اقتصادي او سياسي او طائفي، وصرخ الجميع بوجه القرار. ولم تكن هذه الصرخة من فراغ. بل هي صرخة خوف ووجع وخشية من كون قرار النائب العام المالي، قد يفرض مراجعة غير مسبوقة لكيفية هدر مئات المليارات من الدولارات من اموال الدولة واموال المودعين. ليس لكون القطاع المصرفي هو معبر تصريف هذه الاموال، بل لكون القطاع المصرفي كان بالنسبة الى هذه الطبقة، الاداة الاكثر وضوحا ونفوذا في تسيير امورها. عدا عن كون القطاع ظل على الدوام المعبر الالزامي لتهريب اموالهم او تبييضها او حتى اخفائها.
وجاءت ردة الفعل الغاضبة على قرار النائب العام المالي، لتعيد تظهير لوحة التحالفات على حقيقتها. حيث عاد وتصالح سعد الحريري مع ميشال عون وصار وليد جنبلاط اقرب الى حسان دياب، بينما وقفت بقية القوى السياسية المتنافسة تنتظر نتيجة السجال لتعرف كيفية التصرف، والاهم، هو كيف ان الابواق الإعلامية لـ«الثورة الشعبية» انحازت في ثوان الى حيث مصالحها المركزية القائمة الى جانب القوى النافذة في البلاد من سلطات رسمية وغير رسمية سياسية واقتصادية ومالية. اذ مقابل تحرك شعبي هزيل أمام مصرف لبنان وجمعية المصارف، كانت قنوات الثورة ترمي الاسئلة المشككة. من المؤسسة اللبنانية للارسال التي قالت انه «ليس بالإمكان عزل خطوات اليوم عن سياق ما جرى منذ أمس والذي تدرج من موقف الرئيس بري الذي حمل المصارف المسؤولية... بعد الظهر ردت المصارف بعنف غير مسبوق، فحملت السلطات السياسية المتعاقبة، حكومات ومجالس نواب المسؤولية... جاء الرد على الرد من القضاء، فكان قرار القاضي علي ابراهيم، وفي توقيت كان فيه رئيس جمعية المصارف في لقاء مع رئيس الجمهورية، قبل أن يصدر قرار ابراهيم»؛ الى قناة «المر تي في» التي توقعت مسبقا ان القاضي غسان عويدات سيتراجع عن قرار القاضي ابراهيم، لتكون الذروة مع مقدمة نشرة أخبار قناة «الجديد» التي اعتبرت القرار بمثابة «انقلاب مالي وتأميم شامل كان له وقع الزلزال على اللبنانيين وجمعية المصارف»، لتستكمل القناة هجومها بانتقاد قاس لمشروع قانون رفع السرية المصرفية...
اهم ما في تحقيقات القاضي ابراهيم هو السؤال عن الحسابات الخاصة لاصحاب بعض كبرى المصارف وحجمها وسبب نقلها الى الخارج


عمليا، ما حصل أمس، تحول عن قصد او غير عن قصد، الى بروفة بشأن كيفية تعامل البلاد المتوقع مع قرار الحكومة المرتقب باعادة هيكلة الدين العام، وتأجيل دفع سندات اليوروبوند. وهو قرار سيجري تصويره ايضا على انه انقلاب على «التاريخ اللبناني الناصع ازاء المجتمع الدولي لناحية التزام سداد الديون»، كما يرى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وسنشهد حملة عنيفة على الحكومة تمهد لالزامها استدعاء صندوق النقد الدولي لادارة الازمة في لبنان، وفق برامج معروفة الخلفيات والاهداف وتجارب العام شاهدة على ذلك..
لكن، وبمعزل عن كل الاخطاء التي ارتكبت عن قصد او عن سوء تقدير، فان أمراً مهما يجب ان يقلق المصرفيين الكبار، وهو ان كل المداخلات لن تلغي حقيقة ان القطاع في ازمة. لكن الازمة ليست منحصرة في كيفية التعامل معه من قبل الدولة او الخارج او المواطنين، بل هي ازمة بنيوية، تتصل بكيفية ادارة القطاع لشؤونه. وهي ازمة تتجلى اليوم في الادارة الغبية لجمعية المصارف، من رئيسها الذي يسعى لدى الاميركيين لتبييض صورته مهما كانت الكلفة، بينما لا احد يعرف لماذا تورط هو قبل غيره بعملية بيع سندات اليوروبوند بالطريقة التي حصلت اخيرا، الى عدم التجانس في الاجراءات المفترض اتباعها من قبل هذه المصارف في مواجهة حاجات الناس ومتطلباتهم اليومية، الى الملف الذي اثير في التحقيقات مع القاضي ابراهيم، لناحية حجم الاموال التي اخرجت من لبنان بين اذار و17 تشرين 2019، او تلك التي اخرجت من لبنان ايضا خلال فترة الاقفال بعد اندلاع الحراك الشعبي، وصولا الى ما هو اهم، ويتعلق بمكان وجود الحسابات الخاصة لاصحاب بعض كبرى المصارف وحجمها وسبب نقلها الى الخارج، بينما يجري خداع الناس من اجل ايداع اموالهم في المصارف في لبنان...
اليوم، يحتاج القطاع نفسه الى مراجعة وثورة، تقود الى اعادة الاعتبار الى العمل المصرفي بوصفه مهنة لها اصولها، وليس تحويلها الى نشاط مجموعة من المرابين، الذين يسلمون امرهم واموال الناس الى سياسات يديرها حاكم يريد ان يبقى في موقعه الى ابد الابدين، ومعه اوركسترا تنشد لنا يوميا انه لا مخلص لنا غيره... ويا ويلنا من بعده!